برزت في الآونة الأخيرة مواقف تحذّر من إسقاط الدستور اللبناني وأبرزها للبطريرك بشارة الراعي الذي رفض أيّ كلام عن المثالثة ومؤتمرٍ تأسيسي، والدكتور سمير جعجع الذي رأى أنّ «تعطيل الانتخابات الرئاسية تخطى عملية تكتية، وما حصل هو عمليةٌ لإسقاط النظام اللبناني بمجمله»، والرئيس نبيه بري الذي أكد رفضَه المثالثة والتأسيسي على رغم أنّ فريقه السياسي متهمٌ بالسعي لتغيير الدستور.

التقاطع بين الراعي وجعجع وغيرهما على وجود مساعٍ للانقلاب على الدستور يؤشر إما إلى وجود معلومات ومعطيات دفعتهما إلى رفع الصوت في محاولة لقطع الطريق على أيّ مسعى من هذا النوع، أو مجرد استنتاج موضوعي نتيجة التعطيل المتمادي، هذا التعطيل الذي لم يعد يمكن تفسيره إلّا بكونه يهدف إلى التمهيد لمؤتمرٍ تأسيسي من باب أنّ الأزمة القائمة هي أزمةُ نظام.

ومن مؤشرات هذه الأزمة، في موازاة الفراغ الرئاسي، التمديد النيابي وعدم الاتفاق على قانونٍ جديد للانتخابات وغياب التوافق حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية وإدارة العمل الحكومي بـ»حلاوة الروح»، وكأنّ هناك إرادة لتعليق العمل بالنظام السياسي وصولاً إلى اللحظة المواتية التي تسمح في إعادة النظر بكلّ هذا النظام.

فهناك تعطيلٌ متعمَّد لسير عمل النظام، وإلّا كيف يمكن تفسير حال الفراغ والجمود في كلّ المؤسسات باستثناء الحكومة التي يدرك «حزب الله» جيداً أنّ انفراطها يعني انتقال الاشتباك مع «داعش» و»النصرة» من بريتال إلى الضاحية، ولذلك المطلوب الحفاظ عليها ولو بالحدّ الأدنى مقابل تعطيل كلّ المرافق الأخرى في إشارة للداخل والخارج أنّ الأمور في لبنان لن تستقيم قبل تسوية شاملة تعيد النظر ببنود الطائف من مقدمته إلى نصوصه السيادية والإجرائية.

فما المانع، لولا وجود هذه الإرادة الانقلابية على الدستور، من انتخاب رئيس والاتفاق على قانون انتخابات وإعادة الحيوية إلى المؤسسات، خصوصاً أنّ فريق ١٤ آذار يَفصل بين قتال «حزب الله» في سوريا وسلاحه في الداخل وبين التعاون معه مؤسساتياً، إذ لو كانت ١٤ في غير وارد الجلوس مع الحزب حول طاولة واحدة ولا التعاون معه كان يمكن تبرير الواقع التعطيلي، أما وأنّ هذه القوى تقدّم التنازل تلوَ التنازل من أجل الوصول إلى مساحة مشترَكة مع ٨ آذار، فلا من مبرّر للتعطيل إلّا وجود نيات مبيّتة للوصول إلى المؤتمر التأسيسي.

وما زاد من الشكوك في هذا المنحى تأكيد العماد ميشال عون أنّ «ظروف انتخابات رئاسة الجمهورية غير مؤاتية راهناً»، ما يطرح السؤال حول الأسباب الفعلية التي تجعل هذه الظروف غير مؤاتية. فما الذي يمنع عون من المشاركة في الجلسات الانتخابية الرئاسية؟

وهل الفراغ هو بسبب رفض التكتل العوني و»حزب الله» توفير النصاب لغياب التوافق على عون، أم أنّ تعطيلهما النصاب هو مجرد ذريعة للوصول إلى المؤتمر التأسيسي؟ وما هي الظروف التي تجعل الانتخابات الرئاسية مؤاتية؟ وهل المقصود انتصار محور الممانعة لإيصال عون أم لتغيير الدستور جذرياً؟

وهل الظروف المقصودة تتعلق بالمفاوضات الغربية مع طهران وضرورة انتظار نتائجها التي ستتقرّر مبدئياً في ٢٤ من الشهر المقبل والتي في حال نجاحها سيتمّ الانتقال إلى المرحلة اللاحقة المتصلة بالدور الإقليمي لإيران وضمنه لبنان بطبيعة الحال؟

فكلّ المؤشرات تدل أنّ التعطيل غير عفوي، ولا يستند فقط إلى مبررات شخصانية من قبيل أنّ العماد عون قرّر أنّ من حقّه أن يكون رئيساً وعلى القوى الأخرى التقيّد بهذا الحق أو الفراغ، إنما هناك دون شك أسباب أخرى للتعطيل في طليعتها جعل الملف اللبناني بنداً في المفاوضات الغربية-الإيرانية اللاحقة من بوابة رئاسة الجمهورية، خصوصاً أنّ القراءة المغلوطة عن العلاقة المستقبلية بين طهران والغرب تفيد بأنّ الاتجاه هو إلى إطلاق يد إيران في المنطقة، الأمر الذي يفسر الخلفيات التعطيلية المعوِّلة على هذا التطوّر لإدخال تعديلات جذرية على النظام اللبناني تبدأ بحق الفيتو والثلث المعطل ولا تنتهي بتشريع سلاح «حزب الله» بذريعة «المقاومة».

وعليه، النظرة إلى الفراغ يجب أن تتجاوز الطموح الشخصي لعون إلى استخدامه تفريغ الموقع الأول للمسيحيين في السلطة خدمة لأهداف «حزب الله» بجرّ لبنان إلى مؤتمر تأسيسي، الأمر الذي يستدعي من قوى ١٤ آذار الجهوزية التامة لهذه الخطوة.