يحكى أن عرباً مسلمين ومسيحين كانوا يفخرون بتضحياتهم التي يقدمونها في سبيل استرجاع أرض فلسطين السليبة...

كانوا يقولون القدس عروس عروبتنا .. القدس هوية رسالتنا .. القدس مبعث الأنبياء ومهبط رسالات السماء ..

والآن صارت القضية شيئاً آخر .. أمة تفتك بنفسها بعضها يقتل بعضاً أوطان تدمر وشعوب تهجر وثروات تبعثر والكل يفخر على الكل بما يفعل وكل أحد منهم يدعي أنه الحق المطلق والآخر هو الباطل المطلق وبين الدعوى والإدعاء ضاعت القضية ومزقت الهوية وتلاشى الإيمان وسقطت المبادىء وتهاوت القيم وساد الظلم والحقد والقتل فتشرد الناس وهجروا في أوطانهم ومنها إلى بلاد لم يألفوها ولم يعرفوها وصار همهم الأكبر الأمن والأمان ولقمة العيش ... وصارت القدس حكاية والأمة الواحدة رواية ...

يحكى أن عرباً مسلمين ومسيحين كانوا يتعايشون بمحبة يسود بينهم الوئام يتواصلون يتزاورون يتعاونون ... إذا التقى أحدهم بالآخر لم يكن في باله أن يسأله عن دينه وطائفته ومذهبه وحزبه... ولم تكن هذه العناوين التصنيفية المزيفة في قاموسهم رغم كثرة الإختلاط وقرب الجوار ودنو الدار ..

أما في زماننا هذا فقد فتحنا الباب لإبليس على مصرعيه فدخل حياتنا برفقة جيش لا يعد ولا يحصى فتاهت القيم الإنسانية عنا وكأنها رحلت تبحث عن مستحقيها في عالم آخر ... وأما نحن قد نسينا أو تعمدنا النسيان أن أفضل الجهاد وأكبره مجاهدة نفسنا التي بين جنبينا وصارت كل جماعة منا تصنع عدواً لها تُقنع بعداوته نفسها ومن يهواها حتى تفرقنا شِيَعاً يفتك بعضها بالبعض الآخر ...

يحكى أن عرباً مسلمين ومسيحين كانوا يحتكمون إلى عناية الرب في نظم أمرهم وصلاح ذات بينهم فيقولون عند الفصل في خلاف أو خصومة جاء في الإنجيل قوله .... وجاء في القرآن قوله ..... وينتهي الأمر بعرض دليل قاطع ذو برهان ساطع .... وفجأة غاب كلام السماء عن ألسن المتصارعين والمختلفين في الرأي والموقف وصار التحكيم في محكمة الأرض تحكمه أنا الغريزة وأنا الأنانية وأنا المصالح ....

وصرت تسمع منهم قال الزعيم وقوله الحق المطلق .. قول لا يقبل نقاشاً ولا جدلاً ... أما أدركنا بعد أننا أعرضنا عن ذكر الله جوهراً ونمارسه رياء ..!!

يحكى أن عرباً مسلمين ومسيحين كانوا يحترمون كبارهم ويوقرون صغارهم ويعطفون على فقراءهم يحفظون الجوار ويؤدون الأمانة ....

سقطت تلك القيم الإنسانية وغرقنا في مستنقعات السياسة والتصنيف البغيض وتبدلت معادلة الإحترام وغار الصدق في أوحال آثامنا وفاض الكذب والغش والحقد والكراهية والظلم وتصدر الشيطان صفوفنا تكلم فسمعناه وأمر فأطعناه فعادينا من يجب أن يكون أخاً وصديقاً وألفنا العدو الحقيقي وكأننا نسينا كلام الله :

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا .

يحكى أن عرباً مسلمين ومسيحين كانوا يحرثون الأرض يقلعون منها الشوك ويزرعون فيها تيناً وزيتوناً .. نخيلاً ورماناً .. يبذرون فيها قمحاً وعدساً وشتى أنواع الزرع التي تغذي أجسادهم وتمنحها حيوية الصحة والعافية....

أما اليوم فقد صاروا يحفرون في نفس الأرض ويرفعون ذات التراب ليزرعوا فيه ضحايا الفتن وصارت رائحة الموت الكريهة تنبعث من كل زوايا عروبتنا أوما نسمع صوت المسيح ينادينا : لا لا لا تقتل .. أوما نسمع صوت الله ينادينا : ... مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون .

الشيخ حسين عليان