شنّ السيّد حسن نصرالله هجوماً غير مسبوق على المملكة العربية السعودية، وهذه المرة من باب مذهبي لا سياسي، متّهماً الفكر الوهّابي بأنه يشكّل عمق فكر التيار التكفيري، ومُحمّلاً السعودية مسؤولية وقف أفعال التكفيريين وإسلامهم الزائف.

قد يكون مفهوماً دخول السيّد نصرالله على خط الاشتباك السعودي-الإيراني، علماً أن لا مصلحة لبنانية في إقحام لبنان في هذا الاشتباك، خصوصاً بعد النجاح النسبي بتحييده عن السخونة المُستجدّة بين الرياض وطهران، بدليل مواصلة الحكومة عملها كما استمرار التشاور النيابي من أجل التمديد ومواضيع أخرى.

ولكن ما ليس مفهوماً هو دخول رجل دين بقامة السيّد نصرالله ووَزنه على خط اشتباك مذهبيّ بين الخط الوهّابي-السني وخط ولاية الفقيه-الشيعي، لأنّ من شأن هذا السجال أن يُفاقِم التوتر المذهبي في لبنان وسوريا والمنطقة كلها، خصوصاً أنّ كلامه أتى في لحظة ساخنة جداً، فضلاً عن أنّ الدعوات الإصلاحية تأتي من الداخل السني والسعودي، وليس من فريق ستُفَسّر دعوته تلقائياً بأنها تَعَدّ وهجوم باعتباره في الموقع المناقض والمناهض، علماً أنّ نصرالله يعلم جيداً أنّ الفكر الوهّابي تَبدّلَ جذرياً بين لحظة نشوئه واليوم، حيث أدخلت عليه تعديلات واسعة وجوهرية.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا دخل أمين عام «حزب الله» على خط السجال المذهبي على رغم إدراكه تداعيات هذا الموقف على الصراع السعودي-الإيراني والسني-الشيعي، فضلاً عن الشيعة في الخليج؟

وفي الإجابة، يمكن التوقّف أمام هدفين أساسيين:

في الهدف الأول أراد السيّد نصرالله توجيه رسالة للغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً بأنّ تعاونهم مع السعودية في مواجهة «داعش» خطأ وخطيئة، لأنّ المملكة، وفق قوله، «تتحمّل مسؤولية انتشار الفكر التكفيري»، ولأنّ «المواجهة لا تتمّ فقط بطائرات التحالف الدولي»، إنما «بالذهاب إلى أصل الموضوع عبر المواجهة الفكرية والثقافية والعلمية».

وفي الهدف الثاني أراد نصرالله تظهير موقعه الإسلامي الحداثوي مقابل الإسلام التكفيري، حيث دعا إلى «تقديم نموذج عن الإسلام الصحيح من خلال سلوكهم المنفتح على الآخرين وتعاطيهم بالقسط والإحسان»، وبالتالي وَجّه دعوة صريحة إلى المجتمع الدولي للتعاون مع خط ولاية الفقيه من أجل التصدي للإرهاب.

فالرسالة الأساسية في كلام نصرالله هي إذاً دعوة للغرب من أجل أن يُعيد النظر في حساباته وتحالفاته، لأنّ هذا الغرب رأى، وعَن حقّ، أنّ التطرف السنّي لا يُحارَب بتطرّف شيعي، بل باعتدال سنّي، فجاء أمين عام «حزب الله» ليقول للغرب إنّ مَن تعتقدون بأنه اعتدال هو التطرّف بعَينه، علماً أنّ مَن تصدّى للقاعدة و»داعش» هو السعودية، ومَن يقف موقف رأس الحربة ضد الإرهاب هو السعودية.

ومن الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف أيضاً الخشية الإيرانية المُتعاظمة من الدور السعودي الذي نجح بإبرام تحالف استراتيجي مع الغرب، وإسقاط حكم الإخوان المسلمين من مصر إلى تونس، وتعزيز أوراقه في المنطقة ورصيده، فيما المؤشرات كلها تدلّ، في المقابل، الى أنّ المفاوضات الغربية مع طهران حول ملفها النووي تشهد تأزماً، كما أنّ الغرب يرفض إدراج الدور الإيراني في المنطقة على جدول المفاوضات قبل حَسم الملف النووي. وبالتالي، فإنّ إيران تريد تأزيم العلاقة بين الرياض وعواصم القرار الغربية كي لا تستفيد السعودية من التأزّم القائم.

وإن دلّ ما تقدّم على شيء، فعلى عمق الأزمة التي تواجهها إيران إن في وضعها الاقتصادي داخلياً أو في سياستها الخارجية. وإلّا كيف يمكن تفسير أنّ فريقاً سياسياً يلجأ إلى التوتير المذهبي على رغم إدراكه خطورة إيقاظ المارد المذهبي؟

وفي موازاة ذلك، وبمعزل عن النقاش الفقهي والعقائدي بين ولاية الفقيه والوهابية، والذي يتطلب أصحاب اختصاص. إلّا أنه في حال الإقرار بأنّ توَجّه المملكة العربية السعودية يستند إلى الفكر الوهّابي، فلا بأس من المقارنة إذاً لبنانيّاً بين الوهّابية وولاية الفقيه.

ففي عِزّ الحرب الأهلية عندما كان الانقسام على أشدّه بين المسلمين والمسيحيين، وتحديداً بين السنّة والموارنة، لم تقف الوهّابية السعودية مع السنّة ضد الموارنة والمسيحيين، إنما دَعت اللبنانيين باستمرار، مسيحيين ومسلمين، إلى التوافق والوحدة، وسَعَت في القمم العربية كلها إلى وَقف الحرب والعودة إلى الحوار، ولم توفّر في ذلك سبيلاً، وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان.

علماً أنّ عدم تطبيق هذا الاتفاق مردّه إلى تفويت العماد ميشال عون اللحظة المواتية التي أتاحَت للبنان فرصة تحييده عن أزمات المنطقة، ولكنّ رفضه ومماطلته أدّيا إلى إعادة ربط الأزمة اللبنانية وتكليف واشنطن دمشق مجدداً بإدارة الملف اللبناني.

وفي السياق نفسه لم تسلّح الوهّابية السعودية فريقاً من اللبنانيين إبّان الحرب، ولم تدعم هذه الوهّابية «المستقبل» على حساب الدولة اللبنانية، فيما كان باستطاعتها تمويل فريق سنّي مقابل تمويل إيران لفريق شيعي. فالرياض تُسلّح الجيش اللبناني، بينما طهران تُسلّح «حزب الله».

والرياض تدعم في مواقفها كلها الدولة اللبنانية، بينما إيران تدعو في مواقفها كلها إلى تعزيز المقاومة في لبنان، هذه المقاومة التي تشكّل أبرز مادة خلافية بين اللبنانيين.
ويبقى أنّ الأمل يكمن في أن تَحذو ولاية الفقيه الإيرانية سياسة الوهّابية السعودية في لبنان والمنطقة.