حدَّد التحالف الدولي الرقم 424 مليون دولار، حتى الآن، تكلِفة الطلعات الجوّية فوق العراق وسوريا. الفاتورة غير مكتملة، والمبلغ غير نهائي، وقد يشمل لاحقاً تكاليف خدمات لوجستيّة أخرى.

حتى الخبر ينقصه الوضوح: مَن هي الجهة التي عليها التسديد؟ خارج مزارع النفط، هناك ضائقة اقتصادية، والدوَل المتحالفة لم تأتِ لضرب «داعش»، بل للاستثمار في الناتج الإقليمي، كون الطفرة النفطيّة تولّد طفرة مالية، وهذه تستثمر في دعم الثورات والانتفاضات، و«مَن سَبق، شمّ الحَبق».

يستخدم التحالف سلاح الرقم، يُحدّد بدقّة عدد الطلعات، وعدد الدولارات، وعدد الضحايا في منطقة تحكمها المبالغات والعشوائيات. كم عدد المبالغ التي استنزفَها الربيع العربي؟ كم عدد القتلى والجرحى والمشرّدين والنازحين؟ الرقم مجهول عند العرب، وعندما يجهَّل الرقم يصبح كلّ شيء مستباحاً، وما يحصل الآن هو استباحة العالم العربي من بابه حتى محرابه.

تحتسب دوَل التحالف جيّداً عدد المنخرطين من أبنائها في صفوف «داعش»، و«جبهة النصرة»، وتعرف الكثير عنهم، وتتابع نشاطاتهم بدقّة، فيما تحتسب دول العالم العربي أرقام «مجاهديها» في سوريا والعراق، بالتقديرات. ليس من رقم دقيق، بل مقاربة تقديريّة قد تزيد أو تنقص وفق الظروف والأهواء، والمزاجيات.

مؤتمر برلين للدوَل المانحة هو مؤتمر الرقم. عمدَت وزارة الخارجيّة الألمانية إلى استضافته في مقرّها، لتُحدّد الرقم: رقم النازحين، رقم التكاليف، رقم المساعدات المخصصة أو التي ستخصّص، رقم ما حصل وما يفترض أن يحصل عليه لبنان من مساعدات.

كان الوزير وائل أبو فاعور يملك أرقاماً في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ويحاول الوزير رشيد درباس أن يدقّق، ويمكنِن، لكنّ الواقع لا يساعد. بساط الدولة يضيق، هناك مناطق خارجة عن أيّ سيطرة. هناك معابر داشرة، وأخرى تستثمرها عصابات مسلحة، وفي ظلّ هذا الواقع الفوضوي، يبقى قرار الحكومة بوقف استقبال أيّ نازح جديد مجرّد وهم.

يذهب لبنان إلى مؤتمر برلين بلوائح متفاوتة الأرقام. المنظمات المتخصّصة التابعة للأمم المتحدة لها أرقامها، وزارة الشؤون الاجتماعيّة لها لوائحها، والدوَل المانحة لها معلوماتها. طواقم سفاراتها في لبنان، تعمل وتدقّق، وتحاول أن تضع بتصرّف حكومات دولها صورةً واقعية موضوعيّة حول حقيقة ما يأوي لبنان، وعدد المخيّمات، ومناطق انتشارها.

يعترف بعض الدوائر الديبلوماسيّة، بأنّ المبالغة في تضخيم الأرقام، كانت من بين الأسباب التي ساعدت على تقطير المساعدات. تفضّل الدوَل المانحة الموضوعيّة والدقّة، والرقم المجرّد، في حين أنّ لبنان قد ذهب في المرّات السابقة الى المؤتمرات المانحة بالمبالغات، والأرقام المضخّمة. حاول أن يستغلّ النزوح للحصول على مبالغ يمكن أن يوظّفها في مجالات أخرى لسدّ بعض الثغرات الاجتماعيّة، المعيشيّة، الاقتصاديّة، لكنّه لم يفلح، لأنّ الدول والصناديق تتعامل مع الرقم بشفافية وتحترمه.

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوفّر للبنان إطلالة موفقة، ومشاركة فعّالة في مؤتمر برلين، يقتصر على تداعيات النزوح، وليس على الرقم. يقرّ المجتمع الدولي بهذه التداعيات الأمنيّة والاقتصاديّة، والإنمائية، والمعيشية - الاجتماعيّة. المشاركون في المؤتمر، مشاركون أيضاً - بغالبيتهم - في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، ويتفهّمون جيّداً الأعباء التي يتحمّلها لبنان، وأوّلها العبء الأمنيّ، وما يواجهه الجيش.

فإذا نجحَ سلام ومَن سيرافقه في تقديم الصورة الواقعية بشفافيّة يمكن أن يتغيّر المزاج، وتتحرّك الدول المانحة بدينامية مختلفة عن سابقاتها. المطلوب هنا تحديداً ليس تغيير الرقم، بل حُسن توزيعه.

المطلوب ليس فقط زيادة المساعدات، بل المشاركة في تحمّل عبء النزوح. لا يمكن للبنان أن «يتلاعب» بالأرقام، ولا أن يقبل «التلاعب» بها. لا يمكنه أن يكون وطن النزوح، ولا أرض الاستيعاب. لا يمكن للبنان أن يوقّع في برلين الاتّفاقية الخاصة بالنازحين. أرضه تضيق.

عدد «الأغراب» يناهز نصف عدد «البلديّين». لا يمكنه أن يجنّس، ولا أن يدمج في مجتمعه مجتمعات وافدة. الرقم في مؤتمر برلين يجب أن يكون واضحاً شفّافاً، والإرادة أيضاً. رقم النزوح مخيف، وبدلاً من العمل على تكريسه، يفترض العمل على تقسيمه وتقاسُمه مع الدول المهيّأة للاستيعاب.