في عنق النائب وليد جنبلاط مصيرُ أقلّيةٍ دينية قد تؤول إلى الانقراض إذا لم تُحسِن التعاطي مع أسرار البقاء. ألا يبرِّر ذلك تحذيرَ جنبلاط لمسيحيّي الشرق: لا تكونوا الهنود الحمر!

كثيرون لا يفهمون ما يفعل جنبلاط. وبعضهم يرفض تبرير تقلّباته المثيرة، على طريقة «ألف قَلْبة ولا غَلْبة». لكنّ الرجل، المسكون بهواجس مصيرية، يستوحي نواميس الطبيعة: يحقّ للضعفاء أن يوجدوا الطريقة المناسبة للبقاء على قيد الحياة، ولو بالمراوغة.

جنبلاط 2014 مناقض لجنبلاط 2005... لكنّه مختلف عن جنبلاط 2008 (بعد 7 أيار). لكن ما تغيَّر لدى جنبلاط ليس النهج ولا الهدف، أي حماية الرأس، بل المعطيات.

في 2005، إعتقدَ جنبلاط أنّ البلد سينتقل من ضفّة إلى أخرى بعد إنسحاب السوريين، ولذلك كان الأشرس في المواجهة. لكنّه اقتنع بمهادنة «حزب الله» بعد تجربة القتال وحيداً في الجبل، في 7 و8 أيار. فخلالها، ظهر هو والدروز و14 آذار، مكشوفين في مواجهة السلاح. ومنذ ذلك الحين، بقي يتأرجح مراعاة لموازين القوى.

اليوم يرتاح جنبلاط إلى أنّ علاقاته مع حلفاء سوريا الأقوياء لم تعُد مرشّحة للإهتزاز، ولا سيّما الرئيس نبيه بري و»حزب الله». ولذلك، هو لا يخشى نقمة 8 آذار، خصوصاً بعدما عوَّم دور النائب غازي العريضي. لكنّ قلق جنبلاط آتٍ من نافذة سوريّة. وهذا القلق دفعه أخيراً إلى إطلاق تصريحه المفاجئ: «النصرة» ليست إرهابية.

المواكبون لحراك جنبلاط يسردون معلومات يقولون إنها تبرِّر موقفه الأخير، ويمكن اختصارها بالآتي:

بعد سيطرة «النصرة» على غالبية القرى في سفوح جبل الشيخ والقسم الواقع تحت السيطرة السورية من الجولان، وأبرزها القنيطرة، أصِيبَ الدروز في هذه القرى بالإرباك. وأنذرت «النصرة» أبناء هذه القرى من مغبّة دعم النظام أو حتى البقاء على الحياد.

وكان يجري ذلك جنوباً، فيما اتّسَع نفوذ «النصرة» شمالاً في جبل السمّاق، إدلب، حيث للدروز وزنٌ سكّاني. ويؤدّي حشد «النصرة» في الجانب الشرقي من جبل الشيخ إلى نشوء تماس بينها وبين دروز لبنان، في شبعا- العرقوب، ولا سيّما عين عطا حيث جرت أخيراً مواجهة بين أبنائها ومسلّحين دخلوا من سوريا. وقيل يومذاك إنّ الخلفيات هي عمليات تهريب.

وتردّد أنّ هناك مواجهة قد تفتحها «النصرة» في هذه المنطقة مع الجيش اللبناني، على غرار عرسال، فيدفع الدروز ثمناً غالياً في قراهم. ولذلك، أراد جنبلاط توجيه رسالة إلى «الجبهة» تؤشّر إلى رغبةٍ في المهادنة.

واستتباعاً، هناك ستّة عسكريين دروز بين الخطوفين لدى «داعش» و«النصرة». وقد لمسَ جنبلاط، خلال جولته الأخيرة على حاصبيا والعرقوب، مدى الإحتقان الدرزي الناتج عن ذلك. وقيل إنّه تبلّغَ من بعض المشايخ تنبيهَم إلى أنّ أيّ سوء قد يصيب أحد أبنائهم سينعكس توتّراً شديداً، وربّما انفجاراً لردّات فعل لا يمكن ضبطه.

ويُخشى أن تشمل ردّات الفعل ذات الطابع المذهبي مناطق درزية في لبنان وسوريا. وقد تؤدّي هذه التطورات إلى انعكاسات سلبية على أوضاع الدروز العاملين في بلدان عربية خليجية، على غرار ما حصل للشيعة وبعض المسيحيين في مرحلة سابقة. وهذا ما سيفاقم الوضع الإجتماعي للدروز في لبنان وسوريا، علماً أنّه صعبٌ أساساً.

وتجاوزَ جنبلاط كلّ حساسيات سابقة، وهو اليوم يخوض معركة سياسية للدفاع عن دور الجيش، كضمانة لا بديل منها.
وفي لقاءاته مع القادة المسيحيين، وآخرُهم الدكتور سمير جعجع، يتجاوز جنبلاط تفاصيل اللعبة السياسية ليشدّد على الهمِّ الإستراتيجي المشترك للمسيحيين والدروز. لكنّ وضع القادة المسيحيين ليس شبيهاً بالوضع الدرزي.

يناورون سياسياً تحت سقف المصلحة الطائفية. لكن بعض المسيحيين يناور على حساب المصلحة الطائفية. وقد تكون هناك حاجة مسيحية لبعض البراغماتية الدرزية، أكثر بكثير من الحاجة الدرزية إلى المثاليات المسيحية المعلَنة، خصوصاً أنّ فيها الكثير من المزيَّف.
أراد جنبلاط توجيه رسالة إلى «النصرة» تؤشّر إلى رغبةٍ في المهادنة.