هنا بعض الملاحظات من وحَوْل ثلاث خطب لثلاثة رؤساء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع المنصرم هم كريستينا كيرشنر وحسن روحاني وباراك أوباما.

ما يستحق التوقّف بصورة خاصة هو المداخلة الطويلة لرئيسة الأرجنتين السيدة كيرشنر حول علاقة مديونية بلادها مع المؤسسات المالية الدولية. فقد شكّكت بقوة ومرارة بأهداف هذه المؤسسات على ضوء التجربة الأرجنتينيّة واعتبرَتها إرهاباً مالياً واقتصاديّاً مماثلاً للإرهاب الأصولي في الشرق الأوسط، كما اتهمتها بفرض شروط تولّد دائماً الفقر و ركّزت على ما أسمته "رساميل الطيور الكاسرة". وهذا بالضبط ما يضفي على خطابها أهميةً تتجاوز مجرد ملاحظاتها النقدية على السياسة الغربية في العالمين العربي والمسلم ليمنحه أساساً أهمية ترابط السياستين الداخلية والخارجية في البلد الواحد حتى لو كانت الأرجنتين البعيدة، في عالمٍ لم يعد فيه مكانٌ بعيد. الأرجنتين التي وصفها البابا فرنسيس الحالي بأنها "أقاصي العالم".
من الواضح أن الخطاب الذي ألقته  دي كيرشنر قد نقل الشكوك والاتهامات حول دور الدول الغربية الكبرى في السماح بِـ أو غض النظر عن صعود التيارات التكفيرية المتشدِّدة، نَقَلها من مستواها "المحلّي" الشرق أوسطي والعربي إلى المستوى الدولي.
ففي خطابها قالت الرئيسة الأرجنتينيّة إن دولاً حليفة للغرب كانت وراء دعم وتمويل المنظمات المتطرفة وقالت إن عناصر قُدِّموا على أنهم مقاتلون من أجل الحرية في سوريا تبيّن أنهم التحقوا  بتلك المنظمات.
طبعاً الاتهام ليس جديداً في السجال الأوروبي والأميركي حول "داعش" و"النصرة" وغيرهما من أن السياسات الأميركية وعدد من الدول الدائرة في فلكها مسؤولة عن سابق تصوّر وتصميم عن ولادة وانتشار هذه التكفيريّات. كتب ذلك معلّقون عديدون في الصحافة الغربية. لكن هي المرة الأولى التي يظهر فيها الاتهام على هذا المستوى الدولي ومن رئيسة دولة، صحيح أنها بعيدة عن الشرق الأوسط، لكنها دولة إقليمية بارزة في أميركا اللاتينيّة.
لعلها إذن إحدى المرات القليلة التي تخرج فكرة اتهامية جرت العادة في السنوات الماضية على اعتبارها جزءاً من مواقف التيارات المعادية للسياسة الأميركية في العالمين العربي والمسلم إلى كونها فكرة شبه راسخة على المستوى الدولي ليس بين النخب فقط بل أيضا بين الدول. فالاتهام هنا لا يصدر عن رئيس فنزويلا الموجودة في موقع صدامي كامل مع الولايات المتحدة وإنما عن رئيسة دولة "معتدلة" كالأرجنتين.
الرئيس الإيراني حسن روحاني استخدم هذا الاتهام بل ركّز تقريبا كلمتَهُ على منبر الجمعيّة العامة حول هذه الفكرة وما يتّصل بها (فيما استخدم كلمة "النظام الصهيوني" ومسؤوليته  عن مآسي أوضاع الفلسطينيّين في فقرة وحيدة شبه عابرة دعا فيها إلى "بناء الثقة" بين "دول المنطقة"). لكنْ تبنّي الشيخ روحاني للإتهام ليس بالأهميّة التي لموقف رئيسة الأرجنتين لأن إيران منخرطة في الصراع.
لا شك أن تشكيل التحالف الدولي العسكري جعل موضوع الإرهاب الإسلامي الأصولي موضوعاً أساسيا في الأمم المتحدة. فخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما على المنبر نفسه أظهر ملف هذا الإرهاب الأصولي وكأنه القضية الدولية الرئيسية فيما خطبه السابقة كرئيس كانت تمر على الشرق الأوسط وإنما ضمن مروحة من القضايا كان بعضها يعطي الانطباع عن كونه أكثر أهميّةً في السياسة الأميركيّة.
إذن"تعود" واشنطن إلى منطقة هي منطقتنا  لم تغادرْها يوماً وهي المستمرّةُ منذ ما بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ القوةَ الأولى فيها، "تعود" رغم انتشار الاتهامات الأخلاقية والسياسيّة ضدها وهي تحظى بين النخب المدنية العربيّة بأكبر تأييدٍ حصلت عليه في الشرق الأوسط منذ أكثر من تسعين عاماً! فأكثر من أية مرة سابقة تتجلّى هذه المفارقة منذ انطلاق موجات "الربيع العربي"  الذي سمّته كيرشنر "الشتاء العربي"... تتجلّى في المسافة بين جاذبية القِيمِ الأميركية وبين "مشبوهيّة" السياسة الأميركية من الموضوع التقليدي وهو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الموضوع "الجديد" المتمثّل بالإرهاب الإسلامي الأصولي.