رحل السيّد هاني فحص ورحلت معه ذكريات كثيرة حفظها ذهنه المتقد. السيّد ليس كأيّ شخص آخر. الكتابات التي رثته، تؤكد ذلك. أشخاص لا يجمع بينهم شيء سوى مروره في حياتهم خلال مسيرته الطويلة والثرية.

قبل وقت قصير من وفاته كتب السيّد هاني رسالة طويلة تُشعرنا إعادة قراءتها بأنه كان يحدس بدنوّ أجله. قال، على طريقة المؤمن الذاهب إلى رحلة حج: “نريد أن ننسى الإساءات التي صدرت من سفهاء وعقلاء، ونقول لهم سلاماً. نريد أن ننسى، لأننا نريد أن نمشي إلى غدنا الذي تتكاثف العتمة حوله. إنني أقدم لكم هدية العيد، بقجة من غفران وصرة من مسامحة ونسيان، لإساءاتكم تجاهي وتجاه أمثالي وكالة عنهم، وأكتب لائحة بإساءاتي التي تعرفونها أو تجهلونها، مع اعتذار مكتوب وممهور بتوقيعي وبصمة إبهامي وعيني، شرط أن لا تطمعوا بالتراجع عن نقدي لكم إلا إذا راجعته أنا وعدّلته”.
كثيرون يحاولون وضع السيّد هاني في إطار ضيّق. يرون في مرآته الواسعة صورتهم هم. يتحدثون عنه كأنهم يتحدثون عن أنفسهم أو عن مواقفهم الأخيرة. لكنه كان أوسع من الجميع. مذ غادر قريته الجنوبية إلى النجف في العام 1963، عاش حياة كثيفة جداً وناصر قضايا واتخذ مواقف قد لا تتفق لا مع تاريخ ولا مع حاضر من يحاول البحث عن “السيّد ذي البعد الواحد”. لم ألتق بالسيّد سوى مرّة يتيمة. أنا الذي لاحقته حيث كان ينتشر فكراً وأدباً في الصحف منذ العام 2002 وهو الذي اكتشفتُ أنه يعرفني من خلال مساهماتي في هذا “الملحق”. مرّة وحيدة كانت كافية لأحبّ السيّد الذي أحببتُ مواقفه وسحرتني طاقة الأديب التي فيه حين يعود بذاكرته إلى الماضي ويُخرج وقائع لا تسجّلها سوى ذاكرة روائي كبير.
هل أستطيع الكتابة عن شخصية هاني فحص؟ أعترف: لا. لم أعايش من السيّد سوى تحولات شخصيته الأخيرة. أعرفه كما قدّم نفسه من خلال مواقفه وكتاباته في الأعوام الـ13 الماضية. لمستُ فيه صورة رجل الدين كما أحبّ لرجل الدين أن يكون: شخصية منفتحة تعيش على الحوار مع المختلفين في زمن العصبيات وفي عصر من سمّاهم “البسطاء من الناس الذين يتسلحون بالقطيعة لردّ غائلة الاختلاف في الرأي الذي لا يطيقونه لأنهم لا يدركون الحكمة فيه أو المنفعة”. كان السيّد يقول إن “الحب من دون نقد من الممكن أن يتحول الى نفاق”. أنا أحببتُ السيّد عن بعد وبلا نفاق، وسأكتب عن السيّد الذي أحبّ.

الاعتدال كضمير
“الاعتدال مثل الضمير”، كان يردّد. استناداً إلى هذه القاعدة، قرأ ظواهر التطرّف المختلفة المنتشرة في أوساط المسلمين. أحبّ أن أقرأ، ومسؤولية التأويل تقع عليَّ لا عليه، أنه أراد القول إن كل متطرّف هو إنسان بلا ضمير. في نظرته إلى تاريخ الدعوة الإسلامية، كان السيّد يركّز على ما في انتشار هذا الدين من علامات تسامح. رفض نظرية الدين المنتشر بحدّ السيف وأبرز الأدبيات التي تشير إلى أن العنف الذي مارسه الإسلام لم يأت سوى كردّ على العنف والآيات التي تدعو إلى التعارف بين المسلمين وغير المسلمين. لا تكاد تخلو مقالة كتبها أو ندوة عقدها من ذكر الآية القرآنية التي تقول “يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”. اختار لنفسه موقعاً سمّاه “الوسطية النسبيّة”، وهو منهج حياة يقوم على التقرّب من الجميع شرط ألاّ يكون ذلك “على حساب الحق ولكن لحساب الحق ولحساب الشعب”.
من الأسباب التي أودت بالسيّد هاني إلى الاعتدال الدائم اقتناعه بأن هوية الإنسان مركّبة ولا يمكن اختزالها بالبعد الديني الكامن فيها. في قراءته لتاريخ الأديان، يعترف بأن التعصّب ضروري لتأسيس الجماعة الدينية، لكنه يرى أن الاستمرار في هذا التعصّب يلحق الضرر بها. عن نفسه قال إنه حدّ من تديّنه بمعنى التشدّد وفهْم الدين بشكل ظاهري حرصاً منه على دينه. “كلّنا ضالّون بنسبة أو بأخرى”، كان يقول، وينطلق من قوله هذا ليقلّل من أهمية التبشير داعياً لا فقط إلى التعارف بين الأديان السموية بل إلى التعرّف إلى الأديان غير السموية أيضاً، والانفتاح عليها.
لم يقرأ السيّد النص الديني كما يقرأه معظم رجال الدين، ولم ينظر إلى تاريخ الإسلام كما ينظر إليه السلفيون. ابتعد عن “اليقين الجميل”، ليقترب من الشكّ، لأن اليقين بلا شكّ يصبح “جفافاً يتيبّس”. كان يؤمن بأن قراءة النص الديني يجب أن تتفاعل مع اللحظة وما تفرضه من تحدّيات، وبأن الماضي يجب ألاّ يحجب أفق المستقبل، وكان مقتنعاً بأن قراءة النص يجب أن تنفتح على نتاجات العلوم الإنسانية “العلمانية” أو “المحايدة”. في الوقت نفسه كان حريصاً على التمسّك بالتراث ويعتبر أن الحداثة لا تصبح ناجزة باستبعاد التراث بل بنقده، من دون أن تتحوّل العلاقة بين التراث والتحديث إلى معركة. كان شيخاً متمسكاً بدينه، لكنه يقرأه بطريقة مخالفة لطريقة “سكّان الكهوف اللائذين بصمت العاجزين”. كإصلاحيي نهاية القرن التاسع عشر نظر إلى الغرب بانفتاح واعترف بحاجتنا إلى أخذ “العمران وثقافة القانون المنتشرة هناك”. لكنه لم يدع إلى استنساخ تجارب الغرب بل إلى “ترشيد طريقة أخذنا ونوعية أخذنا من هذا الغرب”.
أحياناً يحتوي التراث على طاقة تساعد على مقاومة الاستبداد وقد تنفع بعض وقائع الماضي في تهفيت الميل الراهن إلى الانعزال عن المختلف. كان السيّد يعرف هذا. في إحدى المرّات قال: “فليزوروا القرى التي كانت تتمتع بتعدد فعلي، وليسألوا الأهالي كيف عاشوا قبل الحرب ليفهموا وليلتمسوا صيغة التعايش المشترك التي أوجدها الناس سابقا في ما بينهم. يجب أن نعيد إحياء ذاكرة العيش المشترك”.

المسلم العلماني
“ليس هناك وصف أو اقتراح لدولة دينية في النص التأسيسي الإسلامي”، كان السيّد هاني يقول مع علي عبد الرازق. و”الولاية الفقهية مسألة فرعية، وليست ركناً ينهدم الإسلام أو الإيمان أو التشيع بمخالفته”، كان يردّد مع الفقهاء الشيعة التقليديين. في رأيه، تمثل الدولة الإطار الأنسب للإجتماع البشري، ولم يكن يجد حرجاً في المطالبة بـ”دولة علمانية”، وإن كان يفضّل استخدام مصطلح “الدولة المدنية” لعدم الدخول في سجالات لا داعي لها مع من يشحنون مصطلح “العلمانية” بمحمولات سلبيّة. “لو أنتج الدين الدولة فسيفسدها ويفسد بها، وإذا أنتجته فستفسده وتفسد به لأنهما حقلان معرفيان مختلفان”، كان يقول.
كانت مسألة بناء الدول الوطنية همّاً شاغلاً لعقل السيّد. قرأ جيّداً المعوقات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف ولم يكتف باستخدام القياس الأعمى كما غيره من الفقهاء. كان ينظر إلى المجتمع بعين عالم الاجتماع أكثر مما بعين الفقيه. ميّز بين السلطة والدولة واعتبر أن الأولى “تستقوي” على الثانية وعلى المجتمع بشكل عام، وأن المجتمع أيضاً يستقوي على الدولة ما يؤدي إلى “استيقاظ الهويات الفرعية بديلاً من الدولة”.
حبّه للدولة لم يدفعه إلى تأييد المشاريع الاستبدادية، بغض النظر عن منطلقاتها الإيديولوجية. انتقد كل المشاريع التي تلغي خصوصيات الشعوب ومكوّنات مجتمعاتها. في الداخل اللبناني، اعتبر أن “لبنان لا داعي له من دون المسلمين ولا طعم له من دون المسيحيين”. في العام قال إنه لا يمكن “اختزال” التنوّع بالحديث عن “جامع وحيد” ورفض مشاريع الوحدة التي تلغي التعدّد. من هذه المنطلقات رفض خطب الوحدة التي يطرحها الإسلام السياسي واعتبرها “خادعة ولاغية”. ففي رأيه لم ينجح الإسلام السياسي في الإنفكاك عن التعصّب المذهبي، ما يحول دون قدرته على انتاج دولة ديموقراطية.
“الإسلام السياسي أو الدين السياسي، هو مجرد جمع بين مفهومين متناقضين”، هذه هي رؤية السيّد للعلاقة بين الشأنين السياسي والديني، فـ”السياسة تدبير والدين تنوير”. الدولة في فهمه هي دولة “علمانية” يجب ألاّ يستبطن مشروعها أيّ عصبية ضد الدين. المجالان يجب أن يتكاملا. “أريد علمانية، لا أن تنتج الدولة ديناً فتفسده، أو أن ينتج الدين دولة فيفسدها أيضاً”، كان يردّد.
لم يعارض السيّد الزواج المدني بل دعا إليه، رابطاً قبوله باحترام مقتضيات الشريعة. وهو بهذا لم يخرج عن الفقه الإسلامي الذي يعتبر الزواج عقداً مدنياً. كثيرون تحدثوا عن الزيجات المختلطة التي عقدها السيّد واستفاضوا في كلامهم بشكل يوحي أنه عقد زيجات لا تراعي أحكام الشرع. البتة. كل الزيجات التي عقدها يمكن أن يعقدها أيّ شيخ مسلم. ميزة السيّد كانت في مكان آخر. كانت في جرأته على التنظير لمسائل يخاف منها المشايخ البليدون الخائفون من كل تجديد. بالنسبة إلى الزواج المدني قال السيّد ببساطة: هو عقد مدني ينبغي أن يحترم شرطين فقهيين ليتوافق مع المعايير الإسلامية: التصريح بعبارة “زوّجتك نفسي” وذكر المهر كما ينبغي ألا يتضمّن شروطاً يعتبرها الشرع باطلة. كان يعرف كيف يوافق بين الحداثة والدين.
حرص السيّد على مكانة الدين في الحياة البشرية. محاربته لتسلّط الدين كانت تهدف إلى المحافظة على الدين لا أي شيء آخر. “الدين حاجة للفرد، لا أجازف بإلغاء الدين”، كان يؤكّد ويقول: “أنا لا أريد أن أنقض الخطاب الفقهي، وإلا فإلى أية وجهة آخذ الناس؟ فلو كسرت النظم الفقهية، فلنكن متأكدين ألاّ شيء سيجمع الناس”، آخذاً في الحسبان تفكيك نظم الدولة الحالية للثقافة المجتمعية. لكنه أيضاً كان يطالب الفقهاء بالمرونة “والابتعاد عن اختزال الدين بالفقه فقط”، وبإنتاج خطاب ينسجم مع الحياة. فالفقيه، في رأيه، لا يمتلك “سلطة علوية مفروضة على الشعب” ولا ينبغي أن يكون خادماً لمصلحة السلطة بل هو “سلطة طوعية” يُفترض أن تعمل لخدمة الدولة أي المجتمع، لا لخدمة السلطة.

حرص على المقاومة
ارتبط اسم السيّد هاني فحص في السنوات الأخيرة بمعارضته لمسالك “حزب الله” إلى درجة دفعت البعض إلى الافتراء عليه ووصفه بأنه “منظّر التيّار الشيعي المعارض لحزب الله”، وكأنّ هذا التيار حزب أو تنظيم أو ما شابه. السيّد كان يعتبر نفسه ضميراً. كان يقول لمن يدعوه إلى تشكيل إطار سياسي: “إعمل. وأنا والسيّد محمد حسن الأمين سنكون المظلّة. لا تستهلكونا بالعمل اليومي”.
لم يكن السيّد شخصية سلطوية تحبّ المريدين. كان دائماً يروي رواية عن الإمام علي بن أبي طالب وفيها أنه عندما خرج من مسجد الكوفة يوماً تبعه المصلّون فالتفت إليهم وقال: أبكم حاجة؟ قالوا لا، قال: من لم تكن به حاجة، فلينصرف، فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة للقلوب، تفسد قلوب الأتباع بالمذلة والهوان، وتفسد قلوب المتبوعين بالأنانية والكبرياء.
في ما خصّ نقده لـ”حزب الله”، استند السيّد إلى أنه كان ينبغي له توظيف واقعة تحرير جنوب لبنان في بناء الدولة اللبنانية لا في إلغائها “ولا في التبجح بأنها ضعيفة”، محذّراً من “التفريط في النتائج بالمبالغة”. كان يعتبر أن القوة الحقيقية يجب أن “تتحول إلى رافعة” تساعد على بناء دولة قوية محققة إرادة اللبنانيين الشيعة، وهنا يظهر تأثره بنهج الإمام موسى الصدر. على الشيعة أن يندمجوا في مجتمعاتهم الوطنية، وخصوصاً في لبنان، “لأن عدم الاندماج يعني التلاشي”، كان يردّد مع الإمام محمد مهدي شمس الدين. “بناء الدولة على أساس المواطنة أهم استثمار لرصيد المقاومة والتحرير”، كان يقول.
لم ينظر السيّد هاني إلى علاقة “حزب الله” بالدولة اللبنانية من جهة واحدة. كان يعترف بأن بعض أسباب ظهور الحزب كـ”دولة موازية” يعود إلى ضعف الدولة نفسها، فـ”الدولة اللبنانية بعد الطائف لم تعد مقتنعة بذاتها. لقد أعطت فرصاً كثيرة لمن يريد أن يضعفها حتى يفعل فعله”. أراد السيّد للبنانيين الشيعة الخروج إلى الوطني مع الاغتناء بالخصوصية الشيعية. كان يعترف بقوّة “حزب الله” ويردّد بأن على عقل الحزب أن يتطوّر ليصبح متناسباً مع قوته على الأرض ويمكّنه من حفظ إنجازاته الوطنية. وكان يحذّر من حقيقة أن “كل تطرف في طائفة يستدعي التطرف في الطائفة الأخرى ويدعمه”، وفي المحصّلة لن يصبّ هذا التطرّف سوى في مصلحة “أشرار الطوائف”. السيّد الذي أقام في إيران بين 1982 و1985 وكان مقرّباً من قيادات الثورة الإيرانية وتولّى مناصب رسمية وشبه رسمية هناك، كان يردّد دائماً مثلاً إيرانياً يقول: “السمكة تفسد من رأسها”.
على رغم انتقاداته لـ”حزب الله” كان السيّد حريصاً على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة معه. في الآونة الأخيرة صرّح بأن هذه القنوات تعطّلت. حرصه على الانفتاح على الخصوم، لم يمنعه من انتقاد استعلاء “حزب الله”. في إحدى المقابلات، قارن السيّد الذي كان مقرّباً من حركة “فتح” في بدايات نشاطه السياسي، في نقد مزدوج، علاقته بقيادات “حزب الله” بعلاقته السابقة مع قيادات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية الذين “كانوا يستعلون علينا على أساس أن لديهم مستوىً آخر للحركة وللعمل لا نعرفه”.

لدور إيراني لا للنفوذ
لم يكن السيّد هاني بعيداً عن الثورة الإيرانية حين اندلعت. كان قد بنى علاقة مع قائد الثورة الإمام روح الله الخميني وزاره في النجف وفي باريس في إطار سعيه إلى بناء علاقات بينه وبين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. إقامته في إيران لأكثر من ثلاث سنوات والأدوار التي لعبها في نسج علاقات بين إيران والشيعة في أماكن متعدّدة، تؤكد ما أكّده السيّد في مناسبات عدّة من دعمه للثورة الإيرانية كثورة ضد الظلم الذي كان يمارسه الشاه.
في مرحلة السيّد هاني الذي أعرفه، كان ينتقد السلطة الإيرانية “على طريقته”. “أنا ممّن لا يشتمون إيران” كان يقول. حين انطلقت الثورة الخضراء في العام 2009، ناصرها السيّد لأنه رأى فيها رفضاً للتسلّط كما سبق أن رأى في الثورة الإيرانية نفسها. بعد اندلاع الثورة السورية، انتقد دعم إيران لنظام الرئيس السوري بشار الأسد من باب تفضيله الدائم لرغبات الشعب على حسابات الأنظمة. قال للإيرانيين: “كانت ثورتكم مثالاً للثورة على الجور والجائر، فما الذي أنساكم جراحكم وإعلانكم الإنحياز الى المستضعفين؟”.
في لبنان، انتقد السيّد على طريقته الدور الإيراني. كان يعارض تحويل “حزب الله” الطائفة الشيعية إلى طائفة ريعية بمساعدة المال الإيراني، ما أدى إلى إرسائه علاقة زبائنية سياسية مع أبناء الطائفة. هي الزبائنية نفسها التي كلن ينتقدها حين حديثه عن دعم إيران لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة. من كلام السيّد، كان يبدو واضحاً أنه يخشى العقل الإيراني وأهدافه الخفية. كان يتحدث عن “العقل الإيراني المنظّم”، عن “الباطنية الإيرانية”، عن “الإيراني الذي يذبح بالقطنة”، ما يؤشر إلى اعتباره أن العلاقة بين شيعة لبنان والنظام الإيراني هي علاقة غير متكافئة ستخدم الإيراني دون اللبناني.
لم يرفض السيّد الدور الإيراني بل رفض النفوذ الإيراني. “النفوذ يعني استلحاقنا وتحويلنا إلى جاليات وطنية بينما الدور يحفظ إيران وكرامتها لأنه يقوم على الشراكة”، كان يقول ويؤكد: “أريد موطئَ قلبٍ وعقل ودوراً ايرانياً في لبنان. الدور يكون مع الشعب. أنا أصرّ على إيران دولة قوية وبيننا شراكة ثقافية قائمة منذ
عقود، لذلك أطمح الى دورٍ ايراني تكاملي وأن تكون ايران حريصةً على استقلال لبنان وعدم تمايز الشيعة عن غيرهم، وعدم اتباع سياسة التحالفات الثنائية لأنها مدمرة”. كان يريد دوراً إيرانياً يحفظ للبنان سيادته ولشيعته خصوصياتهم، على عكس ما هو قائم حالياً من “نظر كثيرين من رجال الدين والسياسيين الحزبيين إلى لبنان على أنه محافظة من محافظات إيران” ومن نظرهم إلى اللبنانيين الشيعة على أنهم “جالية إيرانية”.

ضدّ المستبدّ السوري
“إننا ضد المستبدّ أيّاً يكن”. من هنا انطلق السيّد هاني في دعمه لثورة الشعب السوري انسجاماً مع التراث الشيعي في نصرة المظلوم على الظالم. في البيان الشهير الذي أصدره السيدان فحص ومحمد حسن الأمين جاء: “ومن دون تفريق بين ظالم وظالم ومستبد ومستبد وشعب وشعب، ندعو أهلنا الى الانسجام مع أنفسهم في تأييد الانتفاضات العربية والإطمئنان اليها والخوف العقلاني الأخوي عليها. من أهم ضمانات سلام مستقبلنا في لبنان أن تكون سوريا مستقرة وحرة تحكمها دولة ديموقراطية تعددية وجامعة وعصرية”. الموقف نفسه مع اختلاف صيغة الدعم، كرّره السيّد هاني قبل صدور هذا البيان وبعده. كان ينتقد استبداد النظام السوري وتكتيكه الساعي إلى إحداث فتنة بين مكوّنات الشعب السوري لكي يقول هذا النظام إن “الاستبداد أضمن للناس من الحرية”. دعم السيّد للثورة السورية دفعه، من موقع الحريص، إلى نصيحة المعارضة السورية بالعمل على منع “الجعفيل” من أكل نبتة الثورة.
بطبيعة الحال، رفض السيّد دخول “حزب الله” إلى سوريا واتهمه بالذهاب “من مقام الشعوب إلى مقام الأنظمة” ومن مشروع التحرير الذي ينبغي أن يمرّ بالقدس إلى القرى والحارات السورية وأزقتها. ذهب السيّد في نقده مشاركة “حزب الله” في محاربة الشعب بعيداً، مشبّهاً الحزب بـ”جعفيل” الإرهاب الذي ينهش في الثورة. قال: “غاية الأمر أن قتلاً يتم من خلال متفجرة أو مجزرة وتقطيع الرؤوس والأعضاء علناً من قبل إرهابي تناول جرعة زائدة من المهيج الديني، في مقابل قتل آخر، وبأسلوب مختلف جزئياً، كأن تكون الرصاصة نظيفة ولمّاعة ومسددة إلى القلب حتى لا يتألم القتيل”. حتى رحيله لم يكلّ عن مطالبة هذا الحزب بالعودة إلى لبنان والمشاركة في بناء الدولة بدلاً من الاستقواء عليها.
هل أوفيت السيّد هاني حقّه في هذه العجالة؟ أشكّ. التمس في جهلي بأبعاد كثيرة من السيّد ذي الأوجه الكثيرة عذراً لنفسي. لقد تحدثتُ عن السيّد كما أعرفه أنا فقط لا غير. واعترف: لقد تحدثتُ عمّا أحببتُه في سيّد أحببتُه بلا نفاق.

 

حسن عباس