الوساطة القطريّة مستمرّة للإفراج عن العسكرييّن المخطوفين، لكنّ قواعد التفاوض غير مستقرّة بسبب المتغيّرات التي تُحاصرها من كلّ حدبٍ وصوب، فماذا في التفاصيل؟

يؤكّد بعض المُطلعين أنّ لعرسال وضعاً خاصاً كرَّسَته الأخطاء التي رافقت تنفيذ ما توصّلت إليه «هيئة علماء المسلمين». إنتهت تلك المبادرة إلى بنود واضحة لا يرقى إليها الشكّ.

وعند التنفيذ تحوّلت إلى أخرى مختلفةٍ تماماً، ولا تمُتّ إلى الأولى بصِلة، فتعَطل الاتّفاق وانهارت الثقة، وحَلّت الإتهامات مكان التفاهمات، وتفاقمَت الشكوك والظنون، واشتدّت العصبيّة المذهبيّة، وأصبحت البلدة في غالبية مكوّناتها ضحيّة ولاءَين: ولاء للجيش، «فهؤلاء المحتجزون هم أولادنا ورمز كرامتنا»، وولاء للعصَبيّة السياسيّة - المذهبيّة التي نسَجَتها تراكمات وتحدّيات مع الجوار العرسالي المستقوي بسلاح له لون سياسي ومذهبي مغاير، فضلاً عن العلاقة التي نسَجتها مجموعة من شبّان البلدة مع مسلّحي التنظيمات انطلاقاً من اعتبارات مصلحيّة، أو من اقتناعات عقائديّة «جهاديّة».

بالمختصر المفيد، هناك أمر واقع في البلدة لا يمكن الوساطة القطريّة أن تتخطّاه، لقد تحقَّقت خطوات متقدّمة، خصوصاً لجهة البَتّ في بعض المرتكزات الذي تستند إليها المبادرة، إلّا أنّ «الشياطين» تكمن في التفاصيل، وهذه تتّصل بالعصبيّة العرساليّة الشديدة الحساسيّة هذه الأيام، والتي تتطلب مقداراً كبيراً من الجهد والمرونة لترميم أواصر الثقة، وصولاً إلى المخارج المقبولة من الجميع، والتي تحفظ كرامة الجميع.

والأمر الثاني والمهم أنّ المبادرة ليست في منأى عن جدول الحساب المفتوح ما بين الدوحة والرياض، والذي يشمل كلّ الملفات، وفي كلّ المواقع، وعلى مختلف الجبهات، بما فيها جبهة عرسال.

من حيث الشكل، ليس بالأمر البسيط، أو العادي أن تتبرَّع المملكة بمليار دولار دعماً للجيش ودوره في عرسال وجردها، ثمّ تطلّ الوساطة القطريّة من نافذة العسكرييّن الأسرى، لتقول الدوحة لمَن يعنيهم الأمر في مجلس التعاون الخليجي، أو في المحيط الإقليمي والدولي: «نحن هنا، وجاهزون للقيام بوساطة، ولنا سوابق مشجّعة في أعزاز ومعلولا؟!».

وليس بالأمر البسيط، أو العادي أن يطلّ رئيس حكومة لبنان تمّام سلام إبن البيت السياسي المعروف بعلاقاته التاريخيّة مع المملكة، ليقولَ بالفم الملآن: «شكراً قطر»، ويرتجل مطالعة عفوية من التبجيل والإطراء على أميرها ومعاونيه الكبار.

أمّا من حيث المضمون، ففي عرسال حيثيّة حريرية - سعوديّة لا يمكن تخطّيها، أو القفز من فوقها. فالجميع يُريد الإفراج عن العسكريّين المخطوفين، والجميع يريد الحلول السياسية والديبلوماسية، لتفادي المواجهات التي إنْ حصلت، قد تؤدّي إلى مجازر ومضاعفات، والجميع حريص على كرامة المؤسسة العسكريّة وكرامة لبنان.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الوسيط يجب أن يستخدم «ميزان الجوهرجي» ليقيسَ خطواته قبل الإقدام على أيّ منها خوفاً من انتكاسةٍ ما، أو «دعسة ناقصة» في غير محَلّها يمكن أن ترتّبَ تداعيات وكوارث.

وعلى الوسيط أن يقرأ جيّداً ما بين السطور، «عندما جاء الرئيس سعد الحريري إلى بيروت للعمل على تسييل هبة المليار، تبرَّع بـ15 مليون دولار لعرسال، إنّها بمثابة 15 مليون رسالة، و»على اللبيب أن يعرف كيف يُفكّك رموزها؟!».

ومن الأمور المهمة والبديهيّة، أنّ قطر لم تعُد وحدها. هناك تركيا التي دخلت بقوّة على الخط. إستفاق المسؤولون اللبنانيون فجأةً على حقيقةٍ مفادُها أنّ لتركيا دوراً فاعلاً ومؤثراً، إذا ما قرَّرت توظيفَه بقوّة وشفافية فإنّها قادرة على توفير نهاية سعيدة للمخطوفين العسكريّين.المشكلة أنّ لتركيا حساباتها الخاصة، فهي مطالبة من الولايات المتحدة والتحالف الدولي بدعم المعارضة السورية المعتدلة، وتدريبها، وتسليحها.

ومطالبة بالتعاطي بحنكة وواقعيّة مع المسألة الكرديّة الحساسة، إذ لا يمكن التقليل من تداعيات ما يعيشه أكراد سوريا هذه الأيام على يد «داعش»، على الداخل التركي، والتحدّيات التي تواجه الرئيس رجب طيّب أردوغان، وبالتالي لا يمكن الفصل بين الوساطة التركيّة، والملفات السورية الساخنة، والتي تنظر إليها أنقرة كتحدّيات جدّية.

والمشكلة الأدقّ أنّ العلاقات بين الوسيط القطري والتركي إنّما هي علاقات مصالح، ومن الصعب جدّاً في ظلّ التشابك الدولي - الإقليمي - العربي «المتآلف صوريّاً» تحت شعار مكافحة الإرهاب، التمييز الدقيق بين المفيد والمؤاتي لنجاح الوساطة القطريّة، وبين المُضرّ والمسيء إلى المساعي التي تقوم بها.

وربّما ينبلج فجرٌ من الأمل نتيجة اللقاءات والاجتماعات المكثّفة في نيويورك على هامش الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث يحتلّ الملف اللبناني حيّزاً من الاهتمام الإقليمي - الدولي.