موتُ المفكّر مناسبة. في المقام الأوّل هي مناسبة للقراءة. يستدعي ذلك تجميع الأثر للشروع في القراءة من جديد. القراءة من البدء.

العلامة السيد هاني فحص الذي غادرنا لتوّه نشر كتباً ونصوصاً كثيرة، لكنك لن تجدها في المكتبات مصطفة الى بعضها البعض كالكتب العديدة المترجمة الى العربية لعبد الكريم سروش، وكتب المفكر الأردني فهمي جدعان، وهما أوّل ما يرد على الخاطر للمقارنة بين طروح السيد فحص و»اسلاميّاته الوطنية / الكونيّة»، وبين طروح من يتقاطع معه، أو يؤسس بتمايزه عنه، لأرضية تفاعلية منتجة على صعيدي المعرفة والتدبير.
لأجل ذلك، فالعزاء الأوّل لمحبّي السيد هاني الصادقين، هو في جمع آثاره، وتصنيفها، وتحقيقها، ونشرها بأبهى وأنضر حلّة، فالرّجل الذي غادرنا بألفته الغريبة، واشتعال ذهنه المتّقد، ووصله النقديّ المنهجيّ، غير الانتقائي، والمتعدّد الأبعاد، وبالسباق التفاضلي الذي لا ينتهي بين شفاهته وكتابته، انّما ترك لنا في الفكر الديني نفساً جديداً، أو لنقل «خصلة»، تتشارك، بتفاوت طبعاً، في الهمّ والوجهة مع عشرات من الأسماء الأخرى، وتنتسب الى «سلسلة». ولكم أحببت قبل سنوات، حين استطلعت السيّد في أمر سلسلته، فأعادها رأساً الى السيد جمال الدين الأفغاني، وشملت في القريب علي شريعتي وناقده داريوش شايغان في آن، وفي أصول الفقه المقارن السيد محمد تقي الحكيم. استشعرت يومها أن «العروة» بين السيّدين الأفغاني وفحص قلبية، كشفية، وليست فقط تاريخية، تراكمية، وان الجامع المشترك في الحالتين، بالتشارك مع ضربين مختلفين من الكاريزما الشيّقة، هو تسويغ الحاجة الى تجاوز الحدود الكلامية للفقه باتجاه نوع من فلسفة دين، وفلسفة ايمان في المقام الأول، والتجاوز المعمّق، بناء على ذلك، للقسمة المذهبية التكفيرية – التنجيسية بين المسلمين، مع فارق أن وحدة المسلمين التي جعلها جمال الدين بشروط نهضة الشرقيين، ذهب فيها هاني فحص الى الأبعد، الى شروط الكونية، الكوزموبوليتية، الانسانية، ذلك أنّ راية محاربة التغلغل الاستعماري التي عدّها جمال الدين الأفغاني مدعاة تقريب بين المسلمين، دار الزمان حولها، وصارت راية انتاج الفتنة المذهبية بذريعة محاربة الاستعمار حيناً، وبذريعة محاربة الفتنة نفسها، أو «قطع دابرها» حيناً آخر، علماً أن ذلك لا ينقّص، بل يزيد، من راهنية المواجهة مع التحديين: تحرير الأوطان، والتحرّر من بنية التقسيم المذهبي العدائي نفسها.
واذا كانت المقارنة بين طرفي السلسلة التي تبدأ بالسيد جمال الدين وتصل الى السيد هاني فحص هي مقارنة أمامها وقت وجهد لتأمين شروطها، وكذلك الأمر لناحية تظهير موقع السيد من الإعراب والإعراب الممتنع، على خارطة الفكر الديني النقدي الاسلامي المعاصر، تظلّ محاضرته عن «الآخر في الفقه الاسلامي»، التي ألقاها في المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في مراكش، في أيار/ مايو الماضي، وبالامكان الاستماع اليها على «اليوتيوب»، من أثمن ما يمكن الاستماع اليه، ثم معاودة الاستماع، وهي التي تفصلنا عنها شهور قليلة وممتلئة بالدواعش والعصائب والحوثيين، وكل ما لا يشبه حرارة السيد، وبريق الحبّ في عينيه.
في تسجيل المحاضرة التي تعدّ بحدّ ذاتها ربيعاً مراكشياً في أسلوب طرق الموضوع الديني واشكالية الايمان والفقه والآخر، يشرح السيد بأنه لا يأتي لتقديم أحكام حول «المختلف في الفقه الاسلامي». يقول: «أنا هنا أحرّك ساكناً بنوع من الصراحة والمكاشفة. الساكن الذي يحرّكه: «علّمت الناس كثيراً من أحكام الفقه لاكتشف لاحقاً ان قليلاً من الفقه مع كثير من الايمان يكفي، والذين علّمتهم فقهاً لم يساعدهم ذلك كثيراً على الاحتفاظ بايمانهم، كأن نسبة الايمان قلّت مع كثرة العلم، ولو تركنا الناس على ما كانت عليه لكان أحسن لنا».
أما الإغارة الحذقة في تلك المحاضرة، فتناولت ثنائية «التأصيل والمقاصد» التي أظهر السيد أنّ الأفق التجديديّ ما عاد يمكنه الاستمرار في تكرارها بلا طائل. التسجيل يظهر كم فاجأ مستمعيه بقوله «لسنا مطالبين بالتأصيل. لست مضطراً لتأصيل الديموقراطية ولا اعتبر الشورى ديموقراطية» مبيناً ان «الدولة المدنية لا تؤصّل في الشريعة ولا نستطيع ان نكتشف او ان نولّد غطاء أو مسوّغاً فقهياً لها لأن السياق مختلف». في مقابل، فقه «التأصيل» هذا، اعتمد فحص على «المقبولية»: الدين يوصّف اجتماعاً، والدولة ضرورة اجتماع.
لم يهدأ السيد في مراكش. «هل الفقه علم حقيقي؟» سأل، «الفقيه استقال تاريخياً من همّ السؤال» أضاف، «حتى المقاصد حوّلناها الى أدلّة سكونية» تابع. ميّز بين الاجتهاد التقليديّ وبين الاجتهاد التجديدي، فالاجتهاد بلا حرية ليس اجتهاداً.
ليست «الدولة المدنية» كما طرحها السيد في محاضرته المراكشية دولة ينتظر أن نخلقها من عدم، بل هي تبني على تراكم أسست له أجيال من المسلمين في نموذج الدول السلطانية نفسها، هذه الدول التي فهمت ان «الدولة ضرورة اجتماع». من هنا، اعتبر ان «الفقه الشيعي اضيق من الفقه السني في مجال قبول الآخر»، ليس لتفاضل في الجوهر المذهبي، بل لأن الفقه السني كان بيد الدولة السلطانية والضرورة تفرض عليها أن تدير التعدد، وبالضد من هذا النموذج السلطاني، قامت «الدولة الدينية» في النموذجين الوهابي والخميني.
«الآخر» أو «المختلف» الذي بحث السيد هاني في الخطاب الفقهي حوله بمراكش، لم يكن فقط الآخر «المخالف» في المذهب، بالمعنى التقني للكلمة. فالمذهبة التنجسية للآخر توسّعت، لتشمل كل التصانيف: الكتابي، والشيعي عند السنة والسني عند الشيعي، والمرأة عند الشيعي والسني، والمختلف في قومه والمختلف في سياسته. يقول السيد انه في هذا التراث تظهر المرأة، «السوداء العنطنط» حيناً، والمطلّقة اللفاتة» حيناً آخر، بمثابة «مذهب آخر، دين آخر، عرق آخر»، كما يظهر «الزنوج والأكراد» في ثناياه كـ»قوم من الجنّ»، ويمتدّ هذا التراث الى تصنيفات الخميني نفسه الذي يعدّد «النجاسات» الحسيّة فيجمل «الكافر» من ضمنها.
يوم ألقى السيد محاضرته كانت «بوكو حرام» هي «نجمة الرعب» وقتها وليس بعدُ «داعش». قال للمتحلّقين حوله: «لا يمكنني ان اقول لجماعة بوكو حرام لستم تستندون على نص، بلى، هم يستندون على نص، وخطأنا اننا قلنا هذا نص تاريخي، ونسبي، واكتفينا، في حين ان النص «بدو شغل» – باللهجة اللبنانية – وفقهنا هو فقه مرأة ورقّ».
مع كل هذه الجرأة في الإغارة على المطمئنين التبريريين للتجديد في نطاق التقليد، شيعياً، أو التجديد في حدود ثنائية التأصيل والمقاصد، شيعياً وسنياً، لطالما أحبّ السيد التفاؤل بسردية الوحدة العابرة للمذاهب التي تقطع الطريق على استفحال الفتنة. في تشرين الاول من عام 2003، عام احتلال العراقوبداية الحرب الاهلية المذهبية فيه بشروط الاحتلال ومقاومته، كتب يذكّر «ان السنّة والشيعة في الجليل وعاملة من بلاد الشام تقاتلوا، ولكن ظاهر العمر وناصيف النصار قائدي الفريقين، تصالحا وقاتل الجميع معاً أهل الجور والطغيان، وقدموا أمثولة تستحق ان تستعاد.» هذا التفاؤل يبدو زائداً عن حدّه اليوم بلا ريب، ومشتاقاً لسرديات تنسخها الوقائع، لكن التفاؤل المجسّد في فكرة، والفكرة المجسّدة في شخص، والشخص المتمّم فكره بموته، هو تفاؤل مسند، والمسند لا يُرَدّ.

 

وسام سعادة