عشرات وربما مئات الزيجات المختلطة، مرّت بين يدي السيد هاني فحص. كان من القلة النادرة من رجال الدين القادرين على إيجاد المخارج السليمة شرعاً لحالات يمتنع نظراؤه عن إتمام الزواج فيها، لحساباتهم الضيقة والطائفية.

 

 

هذا كلام بسيط وربما سطحي، لكنه يقدم فكرة عن شخصية السيد هاني الذي ترك هذه الدنيا امس. الانفتاح والرحابة وتيسير الحياة وتجميع الأفراد والجماعات، كانت من سمات العالم والأديب والفقيه الراحل.

 

 

في تسهيله الزيجات المختلطة، لم يخالف قاعدة شرعية واحدة. لم يكسر محرماً واحداً. لم يتحدَّ حكماً فقهياً واحداً. لكنه كان دائماً ينظر إلى الدين كسبيل إلى سعادة الإنسان وليس العكس.

 

 

الأمر ذاته سار السيد عليه في حياته السياسية الغنية. الانفتاح على الثورة الفلسطينية رغم كل حساسيات الجنوبيين منها. تبني قضيتها الى حد التماهي معها. ثم بناء الجسور بين فلسطين وإيران بعد سقوط الشاه. وتقديم قادة الثورتين الى بعضهم في مساع اخذت وقتاً طويلاً وجهداً غزيراً من السيد هاني. كذلك كان دأبه في التقريب بين الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية، وبين قوى اليمين اللبناني وتنظيمات اليسار. بين المثقفين الجنوبيين الشبان وبين المخضرمين و»المؤسّسين».

 

 

من يجالس السيد وبغض النظر عن الطرف السياسي، الذي ينتمي المستمع إليه، قد ينزعج لدى معرفته ببعض الجهات والأسماء التي يلتقي أصحابها. لكن واقعيته كانت تحمله على التوسط بين التناقضات بحثاً عن قاسم مشترك، ولو بسيط، ولو هامشي، يمكن البناء عليه من أجل مصلحة أبعد وأعمق. ربما لا يحب السيد هاني الحديث عن لقاءات أجراها مع شخصيات تعمل بعيداً من الأضواء لإطلاق مبادرة أو تخفيف توتر أو نزع فتيل صراع يهيأ للتفجير.

 

 

ساحاته برحابة ابتسامته، وهذه عملة نادرة في أوساط التجهّم السائد. من الخليج بمختلف دوله، إلى مصر وفلسطين وإيران التي كانت له في أعوام ثورتها الأولى مساهمات كبيرة. ساهم في إخراج مؤسسات إعلامية وبحثية وسياسية من عثراتها، وحصد نكران جميل. ولم تخلّف محاولات تهميشه وإسكاته مرارة كانت متوقعة، فهو المدرك الواعي لحدود البشر وطبائعهم والصغائر التي تحركهم حتى لو كانوا في مراتب عليا اجتماعية وسياسية.

 

 

اتصالاته ورحلاته وأدواره في السياسة منذ سبعينات القرن الماضي، لا نجد لها انعكاساً كاملاً في مؤلفاته، سواء الكتب أو المقالات. احتفظ بالكثير منها لنفسه ولدائرة صغيرة حوله. أما الهموم السياسية التي كان يتناولها في مقالاته خصوصاً، فكانت تُظهر حرصه على التقارب ونبذِ كل انواع التشدّد والتعصّب والانغلاق من أنى أتى.

 

 

الانفتاح في السياسة، كافأه انفتاح على آداب وثقافات العالم. وبسلاسة ويسر كان ينتقل في الحديث بين مصادر فكرية شديدة التباين والتنافر، انتقال المالك لمفاتيح ثقافات غربية وإسلامية، عربية وفارسية، في الشعر والنثر، والفلسفة والفقه، ما يجعل مجاراته من المتع الخالصة.

 

 

هاني فحص، لا تحيطه هذه الكلمات، ولا تفيه حقه. والليالي في لبنان والمنطقة العربية أكثر ظلاماً بعد افتقاد السيد المحاور والمبادر والمثقف والسياسي. الصلب حيث يستدعي الحق، الليّن في الشكليات والمظاهر.

 

 

وداعاً يا صاحب الابتسامة المنيرة في ليل الشرق.