إن الحديث عن  الشعر العربي قديما وحديثا   يتوجب  ان  ينطوي على مبالغة كبيرة في تحديد المفاهيم التي ينبغي  توظيفها حينما نسعى إلى توصيف الوضع المراد توصيفه.

      فالشعر العربي  يمر بمرحلة  كمون  وفتور وتراجع للأدوار الشعرية  التي  كان  يضطلع  بها . لكن أن نقول إنه يعيش او يموت  فهذا القول  فيه  مبالغة  قد تخل  بالتفكير الموضوعي  او الجاد  في الموضوع .

 

      من هذا المنطلق أرى أن الشعر  لا يضمحل ولا يتقهقر، وذلك لأنه جوهر الإنسان ومنطلقه الوجداني. نابع  من أعماق وجدانه  متمثلا في  جريانه  وتسجيله عواطفه الفياضة  و ربما  تزاحمه بعض  الوسائل  والأشكال التعبيرية  الأخرى في ادواره التي  وجد من أجلها، .

 

            أما  وجهة  النظر التي ترى أن أحد  مظاهر  حالة   الشعر      العربي يتمثل في انتشار قصيدة  النثر او قل الشعر الحر  على حساب  القصيدة العمودية ، فأعتقد  بأن هذا  الانتشار إنما  يندرج في  إطار  التجديد   والتطور اللذين تعرفهما  الكتابة  الأدبية  بشكل عام. وأما   البقاء  فيكون  للأصلح  والأعمق  والألصق  بالامور الشعرية  من  حيث  كونها  نابعة من الوجدان  ومخاطبة  له . اي ان القصيدة   العربية  الجيدة  تفرض  نفسها  وبقاءها   وخاصة  اذا   كانت  نابعة  من قلب  شاعر  شديد  الاحساس بما  يكنه  هذا  الشاعر اتجاه  وطنه  وامته او يعبر بما يختلج في قلبه  من عواطف ومشاعر  وما يرتبط  به من  تخييل   ومحاكاة  وتشبيه  وصور شعرية  رائعة  تعبر عن  المفاهيم  الادبية والتعبيرية  والنقدية.

           أن السعي إلى تحديد  مفهوم معين  للشعر أو ماهيته قد يرتبط  بالظروف  والمعطيات  التي تفرزها  حقبة  زمنية معينة  أي أنه ليس ثمة  مفهوم  محدد  للشعر يمكن  أن نجعل منه  منطلقا  لقياس مدى انسجام  القصائد  والأشعار المنظومة في وقت ما مع هذا المفهوم.  لذلك  قد  يكون  مجتمع   معين  يعيش  في أسفل هرم التطور والتقدم، بينما  الشعر أو الأدب في  هذا  المجتمع  قد  يكون  في  أزهى  أشكاله   والوانه التعبيرية . فهذه  موريتانيا  الدولة  الفتية   الصغيرة  تسمى   ( دولة  المليون  شاعر) لكثرة  شعرائها مما  يدلل على ان الشعر ليس  حكرا على  بلد  واحد  او انه  ينمو في  منطقة  ولا  ينمو في اخرى   و في  اغلب  الاحيان   وربما  يكون العكس  اي ان الشعر  في  الاغلب  غير  خاضع  للزمن  الا  بقدر  معين .

        . لكن  هذه المحاولات  والثّورات  الشّعرية  لم  تنجح في  تحرير  ا و تطوير القصيدة  العربيّة من قيودها  القديمة. ثم ظهرت  الموشحات في الأندلس  بهدف  تحرير الشّعر من قيود  القافيّة  الموحّدة  حيث  أوجدت  الموشحات  لنفسها أوزانا  شعرية  خفيفة  تناسب  مجالس الغناء  التي  انتشرت  في  ذلك  العصر، ثم   تبعتها  محاولات  المدارس الشعرية الجديدة  كمدرسة  الديوان، وأبولو، والمهجر، لكن   هذه  المحاولات  لم  تنجح   في  تحرير  القصيدة  العربية   من قبضة  البيت العمودي  فبقي الشّاعر  أسيرا لوحدة البيت رغم تطوير  الألفاظ  والأساليب  وتعدد  القوافي   والأوزان   في القصيدة  الواحدة  وقد بينت كل ذلك في فصول هذا  الموجز المتقدمة  حتّى  ظهرت  مدرسة  الشعر الحر.

      ولعلّ السّبب في ذلك  الفشل  يعود  إلى سيطرة  الأفكار والمفاهيم  التّقليدية  على  حياة  المجتمع  العربيّ  طوال  تلك العصور والتي كانت   تقف  ضدّ  التّطور الفكري  والثّقافي  للحفاظ  على مصالحها الشّخصيّة ولم يجرؤ احد على تغيير  او احداث  طفرة   تغييرية  في مجال الشعر واسعة .  كما أن هناك   أسبابا  أخرى حالت دون هذا التّطور.

              ان ضيق المساحة التي كان يدور  حولها الشّعر قديما  حيث لم  يضطلع على الثّقافات والحضارات المختلفة. لكن الواقع العربي في  منتصف  القرن  العشرين  كان  قد بلغ  وتكامل  وظهرت عليه  علائم و بوادر تخلف  وبدأت الحقائق الكثيرة  المؤلمة   تظهر أمام عيني  الشّاعر المعاصر والتي عبّأت مشاعره  بالألم والجراح  والمحنة  وخاصّة  بعد مأساة  فلسطين  سنة\     1948 وانهزام الجيوش العربية.

 

        ولقد استطاعت الشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة أن  تصوّر حياة الجيل العربي الذي نشأ خلال الحرب العالميّة الثانيّة فقالت :

 (لقد نشأ  جيل خلال الحرب العالميّة الثانيّة وفتح عينيه على هذا الوجود المظلم فلم يجد فيه  ما يسرّ حيث رأى الجمود والعذاب  والصّرامة  والتّزمت الأعمى  والضّغط     وكبت العواطف ،ورأى القيود الرهيبة، كما رأى  نفسه   المتطلّعة التّواقة  للحبّ  والحياة ، لكنّه لم  يستطع   تحقيق   رغباته وأمانيه، فانطوى على نفسه ليعيش في غربة الضّياع والآلام).

         والشاعر  ليس منطلق  من الوزن  ولا من القافية  بل على العكس استمر  بالتمسك  بالوزن  العربي   والقافية  والموسيقى  العروضية  العربية:

.  فالشاعر  يتوجب ان يكون  قادرا على تحمل المسؤولية الكاملة إتجاه ذاته  وكيانه العربي وقضايا مجتمعه  وهذا بديهي  أن يكون الشاعر حرا  في اختيار عدد التفعيلات في كل سطر شعري  بما يتناسب ودفقاته الشعرية  وحالاته النفسية.

 

       وكان أول من أطلق هذا الإسم  واعني به الشعر الحر الشاعران العراقيان  نازك الملائكة  وبدر شاكر السياب وقيل  ان اول  من قال  فيه الشاعر  المصري صلاح  عبد الصبور . وقد عرفت  نازك  الشعر الحر  في كتابها  ( قضايا الشعر المعاصر  بقولها ):

 (إن الشعر الحر هو الذي لا يتقيد بقافية واحدة ولا ببحر واحد، ويقيم  القصيدة على التفعيلة بدلا من الشطر محطما  بذلك استقلال البيت العمودي من أجل  دمجه   مع  الأبيات الأخرى في بناء  فني متماسك )

       أن الشكل  الثوري  الجديد  للشعر العربي  لا ينبع  ولا ينبت  إلا من مضمون الأفكار الثورية الجديدة  التي تنبع من واقع الإنسان   العربي المعاصر، ولكي نخلق  إنسانا  ثوريا  جديدا  قادرا على  تغيير الأوضاع   السياسية   والإجتماعية المتعفنة والتي أدت إلى انهزام الإنسان العربي المعاصر فلابد إذن لنجاح  هذا التغيير من حيث المفاهيم  والأفكار  القديمة والعادات  والتقاليد  التي   ترسبت في   أعماقه  مند   مئات السنين.

       لذلك فإن   الشعر الحر ليس  مجرد  ثورة على الأوزان والعروض   والشعر العمودي  كما يتوهم بعض الناس، لكنه ثورة شاملة  للمضمون  أولا  والشكل  ثانيا  لأن  مضمون  الأدب  المعاصر ليس  مضمون  مناسبات  من فخر أو مدح أو رثاء ولا وصف عواطف  ذاتية  مريضة وإنما هو مفهوم فكري وثوري شمل الصراع الدائم بين الخير والشر وبين  الحرية والعبودية  وبين  الوجود  والعدم لأن  الأديب الحقيقي والشاعر الثوري لا يكتفي  بمشاهدة  الحريق الذي يلتهم أ مته  ووطنه  ومجتمعه ويقف متفرجا على آلام الإنسان وهو يتعذب فيها  بينما   يعيش  هو في  عالم  الأحلام  والخيال  وسط   برجه العاجي  أو هاربا  إلى أحضان  الطبيعة  والغاب  يجتر  بعض  آلامه    وأحزانه  في  رومانسيته  المعتادة،   وإنما  الشاعر  الثوري  هو  الذي  يحمل  الراية  أمام  الجماهير   وليعبر عن  آلامها   وأمانيها  جاعلا  من جسده   جسرا  تمر  من  فوقه  الأجيال . ومن  روحه  منارا  تضيء  حياة  الحرية   للأمة  بكليتها  مهما كلفه ذلك من  ثمن، ومن  ثمة يتحول الأدب من وسيلة  للتكسب  والإرتزاق إلى سلاح قوي  يشق به الإنسان المعاصر طريقا لامته الى  شاطئ الحرية والكرامة.

 

           وهناك بديهة اخرى  وذلك ان الشعر  لم  ينشأ   من العدم  والفراغ  بل نبتت   جذوره  في هذا  المجتمع  لظروف سياسية  واجتماعية  وثقافية  والدليل على  ذلك  إنتشاره  الواسع من المحيط إلى الخليج  ووجوده  حيث وجد  الانسان العربي واستمراره  حيّا  حتى اليوم  وسيبقى  مادام الانسان على وجه  الارض  ويحمل  بين  جنبيه  قلبا  نابضا  وفؤادا  يختلج  ونفسا  يملؤها  الحنين  والشوق  للجنس البشري  وما حوله عامة .

       ان  نزوع  الشاعر العربي  المعاصر إلى واقعه الإجتماعي  والسياسي  والإقتصادي  وهروبه  من عالم الرومانسية  الحالمة  التي  سادت الشعر العربي الحديث.  يبين  ويثبت حنين الشاعر المعاصر  وتطلعه  إلى استقلاله  الذاتي   وبناء   شخصيته  المستقلة  بعيدا  عن  التقليد  والمحاكاة للأخرين .

      ان .إهتمام  الشاعر العربي  المعاصر  بالأفكار والمضامين الجديدة  وخاصة  قضايا  الإنسان المعاصر السياسية منها أو الإجتماعية  أكثر  من  اهتمامه  بالشكل  القديم  جعله  اكثر ارتباطا  في  تربة  وطنه  وانسانه  العربي  وتعرف  على  كل ما لهذا المجتمع   من  قسوة  وشدة  وخاصة  في  الظروف السياسية و الإجتماعية  والإقتصادية  التي  كان  يعاني منها الشعب العربي  خاصة  بعد  هزيمته  في  حرب فلسطين، مما جعل الشاعر العربي  يتساءل عن  اسباب هذه الهزائم، وهذا  العار رغم  ما  تملكه  الأمة  العربية من  إمكانات   عالية   مادية، بشرية، ومعنوية لا حدود  لها  وكذلك  تأثر الشّعراء المعاصرين  بالثقافات  الأجنبية المتعددة واطلاعهم على أفكار  وآراء  وقضايا هذه الشعوب مما زاد في  حصيلتهم الشعرية، والثقافية. مما زاد  من  وطنيتهم  وحبهم  للعروبة .

  لاحظ هذه المقطوعة لصديقي  المرحوم  الشاعر محمود درويش:

 مرالربيع سريعا

مثل خاطرة

طارت من البال

 قال الشاعرالقلق

 في البدء اعجبه ايقاعه

 فمشى سطرا فسطرا

 لعل الشكل ينبثق

 وقال قافية اخرى

 تساعدني على الغناء

 فيصفو القلب والافق.

 

          ولذا يبقى الشاعر  العربي  مرتبطا بل  لصيقا   بتربة وطنه وامته  مدافعا عنها  حاميا لها صداحا بها في كل قصائده وكل ما يكتب او ينشد .
فالح الحجية