عندما نفذ الجيش الاميركي في العام 2011 الخطوة الاخيرة من قرار الانسحاب من العراق تنفيذا للاتفاقية الموقعة مع الحكومة العراقية، احتفت الممانعة بهذا الانسحاب، واعتبرته تتويجا للهزيمة الاميركية في العراق، وذهب البعض من الممانعين واخصامهم الى اعتبار ان الولايات المتحدة الاميركية قدمت العراق هدية لايران وحققت للشيعة فيه سلطة ما كانت لتتم لولا دخول القوات الاميركية الى العراق واسقاطها نظام صدام حسين.

ليست هذه وقائع لا جدال في صحتها، لكن المسار السياسي في ادارة شؤون السلطة والدولة في العراق، وادراج العراق ضمن ما سمي "الهلال الشيعي" او "محور الممانعة"، مترافقا مع التمدد الايراني في مفاصل السلطة العراقية، فاقم عجز هذه السلطة عن صوغ معادلة سياسية وطنية تعبر عن مصالح الشعب العراق. بل غرقت السلطة العراقية في ملفات الفساد، وغاب عن برامجها اي سياسة تنموية توحي بأن ثمة جهدا حقيقيا لبناء العراق الجديد. بل صار الحال اسوأ من ذلك... حتى ادرج العراق في مقدمة الدول التي ينطبق عليها وصف "الدولة الفاشلة".

وأخيرا كشف انهيار الجيش العراقي بقية الفشل. الجيش الذي اشرف المالكي على "تنقيته"، فاستبعد المئات من الضباط، وطوّع عشرات الآلاف في صفوفه، الى حدّ أن رأى العراقيون ما هو ادهى، إذ تحول الجيش الى مكان يعشعش الفساد فيه. فالمئات، ان لم يكن الآلاف، كانوا مسجلين في عداد القوات المسلحة ويتلقون الرواتب والمنح كأي جندي، لكن من دون ان ينضووا فعليا. بل تسربت الى المؤسسة العسكرية امراض الانقسام السياسي والمذهبي. هذا وغيره من الاسباب تسببت بانهيار المؤسسة العسكرية. علماً ان ايّ مراجعة رسمية جدية لأسباب التداعي في مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية لم تتم، ولم يقدم أحد اجابة علمية على اسباب ما جرى وكيف ولماذا. ولم تتضح المسؤولية فيما جرى  من خلال تحقيق نزيه وشفاف، كما اكد لنا مصدر من داخل السلطة العراقية.

تمدد داعش وانتشارها كان الاختبار الجدّي للسلطة العراقية ولحكومة المالكي تحديدا. لا بل لمحور الممانعة وقائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي كان عهدت القيادة الايرانية اليه ملف العراق  منذ الاحتلال الاميركي له. وصدمة الانهيار كشفت حجم التردي في مؤسسات الدولة العراقية، واظهرت عجز سليماني عن فعل شيء لرئيس الحكومة نوري المالكي. وترافق مع هذا الانهيار استنجاد الحكومة العراقية بالتدخل الاميركي. لكن المسؤولين الاميركيين، وعلى رأسهم الرئيس باراك اوباما، وضعوا شرطا للتدخل هو الاقرار بأن الحل لتمدد داعش وتقدمها هو حل سياسي أولا، اي تشكيل حكومة تضم كل المكونات العراقية، واقالة المالكي.

تمهلت القيادة الايرانية في الاستجابة. وعندما اظهرت الوقائع الميدانية ان مسار الاحداث يتجه نحو المزيد من السوء، وان المعارك كان يمكن ان تصل الى قلب بغداد لولا الرسائل الاميركية الحازمة في منع تهديد بغداد، بسقوطها بيد داعش... ادركت القيادة حينذاك ان سياسة الحدّ من الخسائر تتطلب التدخل الاميركي، والاستجابة لشروطها، فكانت اقالة المالكي، بقرار استراتيجي إيراني وافق على اقالة حليفها المالكي.
وتشير مصادر شيعية عراقية الى ان القرار الايراني هذا كان استجابة لمناخ في الحوزة الدينية ولدى القيادات الشيعية بضرورة تغيير شخص رئيس الحكومة. على ان اللافت هذه المرة اجماع حلفاء ايران العراقيين على ضرورة ان تفعّل واشنطن حضورها العسكري في مواجهة داعش.

التدخل الاميركي المشروط بالاستجابة الشيعية لتغيير المعادلة السياسية العراقية عبر اشراك فعلي للمكون السني ارفق بالتسليم للقوات الاميركية قيادة عمليات القوات العسكرية الرسمية بالعراق، وبالتالي الالتزام الكامل بالخطط العسكرية الاميركية لمواجهة داعش، والتي تقوم وتستند على اطر عسكرية سنية وقوات البشمركة. علما ان هذه العملية، اي انهاء "داعش"، ستكون طويلة الامد، كما اعلن الرئيس الاميركي امس. يأتي التدخل الاميركي، وتهميش دور المؤسسة العسكرية العراقية في الحرب المقبلة على داعش، وحصر مهماتها الرئيسة في حماية بغداد ومناطق الجنوب، في سياق تشديد مسؤولين اميركيين ان واشنطن لن تقبل مشاركة عسكرية إيرانية مباشرة او غير مباشرة.

قبلت القيادة الايرانية شروط اميركا بعدما ادركت ان التدخل الاميركي هو اهون الشرور، وبعدما لمست ان ما بنته منذ احتلال اميركا العراق معرض للانهيار السريع. فالادارة الايرانية للاجتماع السياسي العراقي، الشيعي بشكل خاص، كشفت مع تمدد "داعش" عجز إيران عن مواجهة التحدي المستجد، واظهر فشلا ذريعا على مستوى ادارة الدولة. فيما ايران التي تقاتل على الجبهة السورية لا يمكنها ان تحامي عسكريا عن حلفائها في العراق. فكان الخيار الاميركي هو المنقذ من دون اي ضمانات. علما ان الرئيس الاميركي قال كلاما خطيرا قبل عشرة ايام لم يلق اي رد فعل من اي جهة معنية في العراق او ايران وان اثار مخاوف شيعية مكتومة... قال بصريح العبارة: "الشيعة فقدوا فرصة تاريخية في العراق". كلام جاء في لحظة الاستنجاد بقواته من طهران الى بغداد لصد تمدد داعش ، فيما هو يضع شروطا قبل اي طلعة جوية لطائرة عسكرية في الاجواء العراقية.