كانت العرب في الجاهلية الأولى يعيشون في بادية جرداء بين مراتع الإبل ومرابض الحيوانات المفترسة ، إلا أنهم كانوا يتفكَّهون في لغتهم العربية التي تسمَّى لغة "الضاد".. واللغة مهما تعددت كلماتها ومفرداتها ومعانيها فيها لا تخرج عن حروف الهجاء.. دائماً كانوا يعقدون المؤتمرات والمجالس بين نخيل الحجاز وسعافات الطائف ، ويجتمع فيها الأدباء والشعراء والنوابغ لكي لا تتفرَّق لغتهم ويجمعون شتاتها لكي تبقى لغة قريش فصيحة وسهلة المساغ والبيان.. لذلك ترى في اللغة عندهم أسماء عديدة لمعنى واحد ، فيطلقون أكثر من مائة إسم للسيف وللإبل وللأسد وهكذا.. ولا يختلفون في هذا قيد أنملة عندما يقرؤون النص والشعر والغزل ، ولا يتكلَّفون في تفسيرها وتأويلها ، لأنَّ المعنى واضحاً من دون أي تكلُّفٍ... بقيت اللغة موحَّدة حتى نزول القرآن والوحي على رسول الله محمد (ص) فكانت الآيات القرآنية عربية فصيحة التي هي لغة قريش " إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً"..وبعد وفاة النبي (ص) الذي هو صاحب النص وفي وقتٍ قصيرٍ جداً تعدَّدت الإجتهادات والتأويلات والتفسيرات عند فقهاء الإسلام والمذاهب ، وانقسمت اللغة العربية والسُنَّة النبوية بين مذاهب الفقه المتعددة فأصبح لكل مذهب لغة خاصة وتشريع خاص والأحاديث التي خوَّلت للفقهاء سلطة التشريع نيابة عن عقول الناس.. وتفرَّق الفقه الإسلامي بين المذاهب إلى ما لا نهاية ، وظهرت في الإسلام من الفرق الدينية أكثر ممَّا ظهر في جميع الأديان مجتمعة ، وغاب عقل الناس وراء صوت الفقهاء ، وكُتِبَ التاريخ الإسلامي من منظورٍ فرضته ظروف الرقابة السياسية والتزم سلفاً بأن يصبح تاريخاً تسجيلياً منحازاً لكل مذهبٍ وطائفةٍ وفرقةٍ وجماعةٍ وحزبٍ ، ولا يرى الأحداث والظروف من واقع الناس بل من واقع الحاكم والخليفة والفقيه...وهذا ما نراه اليوم من الجماعات والدواعش والحوالش الإسلامية التي أنتجتها اللغة العربية المتشتتة والمتبعثرة ، والفهم الديني من التأويل والتفسير فوضع مفهوم الدولة في يد شخصٍ واحدٍ إسمه " الفقيه والخليفة والحاكم " فيضع مفهوم الدولة في يد الصدفة العمياء..وهذا ما يشير إليه إبن رشد في كتابه "فصل المقال" يقول: "إنَّ التأويل الذي قام به المتكلِّمون وأذاعوه ونشروه لم يكن من أجل حفظ عقيدة الجمهور بل كان أساساً من أجل توظيف الدين لأغراض سياسية ، ومن هنا جاء التظاهر بحمايته من خطر الفلسفة ، في حين أن الخطر على الدين وعلى الفلسفة معاً إنما مصدره سوء الفهم من جهة والهوى من جهة أخرى ".. وأضاف : " إنَّ التأويل لا يكون بدون دافع ولا بدون هدف ، التأويل عندما يُفشي للجمهور لا يكون الغرض منه في العادة إرشاد الناس إلى الحقيقة الدينية ، بل هو نشر لفكر معيَّن ودعوة الناس إلى إعتناقه ضد تأويل آخر سائد أو جديد ، والدافع لذلك هو كسب الأتباع والأشياع بهدف الحصول على النفوذ والسلطة....." ولهذا سيبقى الصراع ويزداد السجال والتعقيد ما دام هناك من يتطلَّع إلى قِيَم السماء من نصوص الأصول وليس من نصوص الفروع "كما يقولون" وآخر يتطلَّع إلى وحل الأرض ، وبينهما حاكمٌ وفقيهٌ متمرِّسٌ قادرٌ على إستخدام الدين وتوظيف نصوصه وتأويله لما يخدم هذه القضية أو تلك ، أو يُسوِّغ الموقف السياسي أو ذاك...إن هذا التأويل أنتج لنا وما يزال ينتج جماعات وأحزاب واتجاهات تكفيرية متطرِّفة مارست وتمارس كل أنواع العنف وأنواع القتل وانتقل التأويل القرآني والحديث النبوي عبر زرع الفتن الطائفية والإستقطاب الجماهيري والإسقاط الديني ، فراحت هذه الجماعات تكفِّر بعضها بعضاً وتُجيِّش طائفة على أخرى تحت شعارات دينية وأحاديث نبوية وآيات قرآنية..وبين التأويل والإسقاط عاش العرب والمسلمون محبطين ويائسين وبائسين على هامش الحضارة الغربية ولا يتقنون إلاَّ لغة "المنشار والمسمار" فباتوا مستهلكين بالكامل لما تنتجه هذه الحضارة من الإبرة وحتى الطائرة....وتلك الأيام نداولها بين الناس......وليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين...

الشيخ عباس حايك