في مطلع ستينات القرن الماضي كانت (الشاكرية) المدينة العراقية الشعبية مولعة أكثر من غيرها من المناطق، بالاستماع إلى الغناء الشعبي، ومنه الموّال. لأن أغلب أهلها وسكانها ينحدرون بالأصل من جنوب العراق، ذي الجذور السومرية، من الذين أطربتهم أغاني كل من سلمان المنكوب، وسيّد محمد، من أشهر أعلام الغناء الشعبي في العراق.

كان خير الله سعيد طفل الطريق المؤدّي إلى مقهيين يطلع في بيئتيّهما صوت المغنيين "المنكوب" و"محمد" فيلج الطرب العربي صدر طفلٍ أغوته طريق الأغنية الشعبية، فراح يحث الخُطى يومياً باتجاه المقهيين ليشدو مع الموّال العراقي الذي تسرّب كما يقول خير الله: إلى روحي شيئاً فشيئاً، ومن ثم تسرّبت إلى قلمي في بدايات كتاباتي الأدبية، وكان للمطرب يونس العبودي دوراً في تعزيز الموّال العراقي ودفعي إلى استشراق الأدب الشعبي في مساهماتي الكتابية الأولى.

عندما غادر خير الله العراق مرغماً في منتصف عام 1978، حمل في حقبية الهجرة أغاني الموّال بواسطة (الكاسيتات) لتأنس روحه، وتهدأ حواسه لحظة سماع "الأشرطة" الموّالية وهو متوجّه نحو سوريا، فلبنان واليمن وبلغاريا وروسيا، ليعيد في سوريا كتابة ما بدأه في قريته (الشاكرية) عن الموّال العراقي، من خلال بعض الكتابات والمقالات القصيرة عنه، في الصحافة السورية خصوصاً والعربية عموماً.

في موسكو وفي نهاية عام 1999م وأثناء انشغاله بالدفاع عن أطروحة الدكتوراه كانت فكرة الموّال قد اشتعلت من جديد في ذهن خير الله وبشكل غير طبيعي كما يصف، فراح يجمع من الكتب والمجلاّت والأنترنت الكمّ الهائل من "الموالات"، وأدواتها (كشاكيل) خاصة مخزّن في صندوق ذاكرته آلاف الموالات، وساعده في ذلك صديقه الإماراتي المولع مثله بالموّال العراقي والذي زوّده بقديم "موالات" وجديدها، حتى بدأت إرهاصات فكرة الكتابة لبحث منهجي – أكاديمي تسري في روحه المأسورة بالغناء الشعبي، وقد دفعه كتاب جديد صدر حديثاً في "لندن" يحمل عنوان "ديوان الموّال الزهيري" للشيخ محمد صادق الكرباسي، إلى جعل الإرهاصة والفكرة عملاً مكثفاً متابعاً وبدقّة لخطى الكرباسي وإن بشكل مختلف باعتبار أن الكرباسي رجل دين وقد أوقف جُلّ عمله على الجانب (الحسيني) وخير الله أكاديمي متحرر كما قال: من أي إسقاط أيديولوجي – دينياً كان ام سياسياً.

من هنا ولدت دراسة الدكتور خير الله سعيد في الموال العراقي، من طفولة مستأنسة بالسماع للأغنية الشعبية، ومن اهتمام رافقه طيلة سيرة لحياته المتنقلة ما بين مصر ومصر بحثاً عن حلم العودة إلى وطنه العراق. انصبّت دراسة خير الله على مراقبة التطور التاريخي والفني لكتابة الموّال العراقي، وظروف تجليات أشكال الصيغ الأولى للنظم، وقلق الشاعر العراقي تحفزّه السريع لتوليد أشكال النُّظم بواسطة السّير في مركب المراحل والتحولات التاريخية.

كانت نكبة البرامكة عام 87 هجري وابتداع جارية الوزير البرمكي جعفر لذلك النوع من الموّال والذي أطلق عليه (المواليا) بداية الظهور لنوع غنائي وجد امتدادته الطرقية والتشعبية من المرحلة "البرمكلية" إلى أو الشاكرية" إذ تعدد الألوان وقواعد التركيب اللغوي "للموالات". فمن الرُباعي، إلى الخماسي الأعرج، ثم السداسي الأعرج او ما يُعرف بالنعماني، ومن ثم البناء الكامل للموال السباعي والذي يعرف (بالزهيري) وصولاً إلى التطورات الشكلية الأخرى والتي أضيفت عليه من (توشيحة الموال، إلى الموّال العشيري، ثمّ الموّال المشط).

قسم خير الله دراسته إلى أبواب وفي كل باب فصول معالجة كل نوع من انواع الموال العراقي ليثري بذلك تراث عراقي حدّد فيه خير الله من خلال أحبائه إلى الوجود بواسطة مطبوعة تنقل واقع الموال العراقي بأمانة علمية وبروحية عالية رافقه طيلة سنّي عمره.

يفتح خير الله بريد الموّال أولى الرسائل من باب محنة البرامكة إبان خلافة "الرشيد" وإثر حادثة معروفة بشهدرة كانت تعرف في المدونات التاريخية بإسم "نكبة البرامكة" والتي كان ضحيتها وزير الرشيد جعفر البرمكي (187هـ/803م) حيث قتله الرشيد ثم صلبه، وقطعت أعضاؤه وعلّقت بأماكن متفرقة وبعد مدّة أنزلت وأحرقت (صورة بشعة تتكرر اليوم في أكثر من مشهد بواسطة الحركات الإسلامية العنفية) وبعد أن بطش الرشيد بالبرامكة أمر بأن لا يُرثى جعفر البرمكي، لكن إحدى جواريه رثته بشعر عرف فيما بعد بإسم (الموالي) وقالت فيه:

يا دار أين ملوك الأرض أين العُرس/ أين الذين حموها بالقناد الترس/ قالت تراهم رقم تحت الأراضي الدرس/ سُكون بعد الفصاحة ألسنتهم حُرس. وهذا النمط من الشعر انتشر بين أوساط موالي البرامكة ونشطوا في استخدامه والنظم عليه في مرثياتهم، لذلك دُعي بالموال.

لقد لعبت مسألة التجريب في نظم الموال وصناعته دوراً فاعلاً في مسألة تطوره عبر كل المراحل الزمنية، ويضيف خيرالله بأن كل تجربة تدل على نوع من الموّال تغري الشعراء لأن يجربوا أكثر، ويبدو أنموذج الموّال العشيري واحداً من أنواع الموال وهو ينظم على عشرة أبيات ومنه قصيدة بالإمام علي بن أبي طالب(ع):

يا نبع الطيب يا جود المفاخر علي/ ضاحت على دنياي والهم تكاثر علي/ وآشما نزل بالصبر صباح الدهر علي/ من حيث ضرني الوكت والحيل مني نزل/ يا دار جيت اسألج يا هو البعدنا نزل/ وآحنا بودادج وفا وعالطيب ما ظن نزل/ يا دار خبري الشموا ضاعت سوالف كبل/ وسهم الدهر بالضلع طالع تراه/ وسفه ترادى الآخو يوم العليّة كبل/ راح وبعدما رجع شايل غضاضة علي.

لقد قضى الدكتور خيرالله سعيد رحلة طويلة وممتعة في البحث المضني عن نشأة الشعر الشعبي الغنائي من خلال إرهاصاته الأولى في الموالات التي بدت له تعبيراً عن الحزن الذي دفع بجارية جعفر البرمكي إلى النوح بطريقة أسّست بداية مشوار طويل مع الموّال العراقي. لقد اختلف الكثيرون مع خيرالله سعيد في حكاية التأسيس للموالات ولكنهم اتفقوا معه في ضرورة المحافظة على تراث عراقي ثري