عـبر سنيّ حياتـه الطويلـة (87 عاما) ـ والتي لم تصل إلى المئة، أي إلى الحدود التي تشبه فيها عنوان إحدى رواياته ـ تحول غابرييل غارسيا ماركيز من صحافي وكاتب، إلى أكـثر من رمـز في أمـيركا اللاتيـنية، وربما في العالم أيضا. نجح ابن تلك القرية الكولومبـية الفقيرة، في أن يجتاز حدود مسقـط رأسـه، وأن يجـتاز هذه العـزلة التي كانـت مفروضة على قارة بأسرها، ليُسمع صوتا مخـتلفا. لنقل ذاك الصوت الأدبي في البدايـة، ومن ثـم السـياسي، وإن كـان الأدب الأمـيركي اللاتيني يغرف كثيرا من السياسة، إذ يلتقيان غالبا ليشكلا صنعا لوعي ثقافي وجد صداه في قارات أخرى عبر ما مارسه من تأثيرات على وعي الشعوب.
من هنا، وعلى الرغم من أنه كان يعتبر نفسه روائيا أي «شخصا غير مثقف»، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي لعبه في الحياة العامة لقارته، بدءا من صداقته الطويلة والعميقة مع فيديل كاسترو التي لم يجعلها مادة إعلامية، إذ حاول دائما أن يلفها بضبابية ما، غير شارح لكنهها، مرورا بصداقاته مع الثوار الساندينيين ووصولا إلى دوره الكبير الذي لعبه في إطلاق سراح المخطوفين الذين احتجزتهم الميليشيات في كولومبيا. ربما ذلك كله يندرج في خط مؤسس لثقافة أميركا اللاتينية، بمعنى ذاك العمق الذي أرسى دعائمه كبير محرريها سيمون بوليفار، على الرغم من أنه لم يكن كثير الرحمة معه، وفق ما كتبه عنه في «الجنرال في متاهته»، وهي الرواية التي عالج فيها الشهور الأخيرة من حياة القائد بوليفار. بهذا المعنى «الثوري» قد نفهم جملة الرئيس الإكوادوري رافاييل كوريا الذي قال: «غادرنا غابو، سنعيش في سنوات من العزلة، لكن تتبقى لنا أعماله وحبه للوطن الكبير (أميركا اللاتينية)، قبل أن يختم باستعادته لجملة غيفارا الشهيرة:
Hasta la victoria siempre عزيزي غابو». أما في كولومبيا، موطنه، فقد أعلن رئيسها الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام مع تنكيس الأعلام من على كل الدوائر الرسمية.

مائة عام من العزلة

بهذا المعنى، تحول ماركيز إلى مثقف، وإلى حامل لوعي كبير بالتاريخ وبالشرط الإنساني كما للشرط الوجودي، إذ لم ينفك حضوره الشخصي عن الارتباط بالحضور العام، وبالتأكيد نجح في ذلك كلّه عبر الأدب، عبر الكتابة التي أفردت له هذه المساحة الكبيرة، وبخاصة روايته «مائة عام من العزلة» التي ساهمت في صنع اسمه. ربما من محاسن هذه الرواية أنها جعلت القراء يعودون إلى كتبه السابقة التي أصدرها: المجموعات القصصية، والريبرتوجات الصحافية، وبالتأكيد «ليس لدى العقيد من يراسله» تلك الرواية الصغيرة الساحرة التي تختصر عبر شخصية الكولونيل، نظاما كاملا من التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري في أميركا اللاتينية.
«مائة عام من العزلة» مهدت الطريق أيضا لما أتى من بعدها وبخاصة «خريف البطريرك» التي لا تقل روعة عن سابقتـها، لكن القـراء توقفـوا في ذاكرتهم عند رواية العزلة، وإن كان بطريرك ماركيز لا يقل وحدة وعزلة بدوره. حتى «وقائع موت معلن» و«الحب في زمن الكوليرا»، نجد فيهما تلك العزلة الأثيرة على قلب الكـاتب، وإن كانت تأتي بصيغ مختلفة.
ثمة قصة، غالبا ما رددها ماركيز حول كتابته «مائة عام..»، تستحق أن تروى (ألم يقل هو نفسه في مذكراته «عشت لأروي»). إذ كلّ شيء بدأ بجملة. تقول القصة إنه في العام 1965، كان هذا الكاتب الشاب يشعر بأزمة كتابة منذ أشهر. حاول كثيرا لكنه لم ينجح في الوصول إلى أيّ جملة مفيدة. لذلك قرر أن يأخذ إجازة قصيرة (كان يعيش يومها في المكسيك) ليذهب مع زوجته وأولاده إلى أكابولكو. وفوق الطريق غير المعبدة التي أشعرتهم بالإرهاق، جاءت جملة لتحتل روحه وعقله. كانت تبدأ على الشكل التالي: «بعد مرور سنين عديدة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اورليانو بوينديا تلك الظهيرة البعيدة...». وأمام إلحاح هذه الجملة عليه، استدار وعاد إلى منزله، ليبدأ بكتابة تلك الرواية التي لم تجعل منه فقط واحدا من كبار كتاب القرن العشرين، وإنما أيضا لتؤسس لمرحلة أدبية، لم يستطع أدب قارة (والعالم أيضا) تجاوزها بسهولة. ويضيف ماركيز كيف أنه وبعد نهاية الكتابة، لم يكن لديه ثمن إرسال المخطوط في البريد فتدبرت الأمر زوجته، وحدث ما حدث بعد ذلك.

أول اسم

ربما هذه الحادثة أثرت أيضا في مخيـلتنا لقراءة هذا العـمل، بمـعنى هذه المعاناة التي تشدنا دوما إلى الكتّاب الذيـن يعانون من قسـوة الحـياة. قراءة جعلتنا نتناسى كثيرا بقية أدب أميركا اللاتينية. أقصد، حين نتطرق إلى الحديث عن أدب تلك القارة، وبخاصة نـحن الـعرب، نجد أن أول اسم يقفز إلى أذهاننا هو اسم ماركيز. صحـيح أنه كاتب على درجة كبيرة من الأهمية ولا يمكن لأحد أن يغض الطـرف عـن ذلك، لكن هناك أيضا العديد من الكتّاب الذين إن، لم يتفوقوا عليه بالأهمية، فإنهم يقفون على المستوى عينه: أين نضع بورخيس؟ أو خوليو كورتاثار؟ بدون شك لا يكتمل المشهد بدون أونيتي وبينيديتي وغاليانو وحتى يوسا وغيرهم كثر. في أي حال، لا يعني كلامي مطلقا، أن ماركيز كان من نوافل الكتّاب بل على العكس تماما، لكنه لا يشكل المشهد بمفرده، بالرغم من أن العديد من النقاد يعتبرون «مائة عام من العزلة» أكبر عمل أدبي مكتوب بالاسبانية ولا ينافسها في ذلك إلا كتاب ثربانتس «دون كيخوته».
رحيل ماركيز هو وقبل أي شيء رحيل رمز أدبي وسياسي، انفجر حضوره في ستينيات القرن الماضي إذ حـمل معـه أحلام العـدالة والمـساواة والحياة الجديدة، قبل أن يتم إجهاض ذلك كله إما بفعل التدخل العسكري الأميركي، وإما بتحول أبطال التحرير أنفسهم إلى دكتاتوريين. أليس من المفارقة أيـضا أن تصـدر «مائـة عام..» العام 1967 أي في السنة التي صدرت فيها أسطوانة البيتلز «سيرجنت بيبرز»؟ وجدت أوروبا يومها بعـض أحلامها الكـثيرة في أغـاني «الخنافس» وموسيقاهم، ووجدت أميركـا اللاتيـنية الكـثير من أحلامها في هذه الرواية. ربما ثمة تشـابه بين الأمـرين، نجد صداه في هذه الجملة التي قالها ماركيز في خطابه يوم تسلـمه جائزة نوبل العام 1982، يقول: «في وعي أوروبـا الجيـد، كـما في وعيـها السـيئ، انبجســت وبقـوة كبــيرة هــذه الراهنية الفانتاسـمية العائـدة لأمـيركا اللاتينية، أي هذا الوطن الكبير للرجال المهلوسين وللنساء اللواتي دخلن في التاريخ، حيث أن عنادهم غير المحدود يمتزج بالأسطورة».
لا أعرف إن كانت أميركا اللاتينية مجرد أسطورة، فما كتبه ماركيز «بواقعيته السحرية» (كما اصطلح على تسمية أدبه بذلك) ليس في الواقع سوى، وكما تقول إيزابيل الليندي، «هذا الصوت الذي روى للعالم ما نحن عليه، نحن الأميركيين اللاتينيين، لقد دلنا على أنفسنا في مرايا صفحاته. عزاؤنا الوحيد أن أعماله خالدة».

إسكندر حبش